محمد الموجي... صاحب التهديد الأبدي "للصبر حدود"

16 يوليو 2019
الموجي.. عالم موسيقى وخصوم (يوتيوب)
+ الخط -
إذا كان رياض السنباطي اختصر سيرة حياته بالقول إنها "سيرة أم كلثوم"، فإن محمد الموجي أراد الذهاب أبعد من ذلك مع عبد الحليم حافظ. لقد لمع النجم في "صافيني مرة" والختام الوداعي قالته "قارئة الفنجان".

توفي الموجي المولود عام 1923 قبل أربعة وعشرين عاماً، في الأول من يوليو/ تموز 1995، واختارت الجزيرة الوثائقية بث حلقة من سلسلة "حكاية أغنية" مخصصة لـ"قارئة الفنجان"، التي ينظر إليها نظرة خاصة، فنية موسيقية وعاطفية.

ظهرت حكاية "قارئة الفنجان" في أغلب مفاصلها نسخة معادة، كما الذكريات التي يحبها أصحابها، ولأنهم كذلك يرغبون في استعادتها ويرغبون أن تشاركهم فيها.

تداولت الحلقة ما تداولته وسائل الإعلام سابقاً: حبس عبد الحليم حافظ لرفيقه الموجي في غرفة فندقية، حتى يجبره على الانتهاء من تلحين الأغنية. كانت هناك حادثة تصفير الجمهور، الذي قيل إنه متعمد ومدسوس من بليغ حمدي (وزوجته وردة) لصراع الملحنين على عبد الحليم، واستبدال "من مات على دين المحبوب"، بـ "من مات فداء للمحبوب" تحسباً من غضبة أزهرية.

ومع أن الحلقة تمرّ على أغنية واحدة، إلا أن الإشارات الواردة تفتح الباب على سيرة الموجي الممتدة، بما هي إبداع موسيقي، ذات اعتداد، وبما هي خصام مع فنانين، ذات طابع معيشي حقوقي ومكاسبات مع ملحنين آخرين، وبما هي شكاوى علنية لنكران الجميل، من مغنين "غير أوفياء مادياً".


عام 1968 كان في الخامسة والأربعين حين أعلن "ثورة" على ذاته، وعلى هؤلاء "غير الأوفياء" الذين هم في نظره أبواق (زمارة بالحرف) لألحانه. هؤلاء وبالخصوص عبد الحليم وفايزة أحمد ومحرم فؤاد، الذين لا يتذكرون فضله، ولو حتى ببطاقة معايدة.

في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كان يتسيد السينما الغنائية، عبد الحليم المقبل، وفريد الأطرش المغادر.
وربما كان نموذج الأطرش مغرياً أكثر، فهو ملحن أيضاً. ويمكن لشاب مثل الموجي الانخراط في تجارب سينما يلحن ويغني فيها، وثالثاً يمثل، فكانت له ثلاثة أفلام، اثنان منها مع مريم فخر الدين، بيد أنها لم تترك بصمة، كما هي الحال مع أفلام محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وعبد الحليم.


إنها تجربة في عالم السينما، الذي أغرى حتى رياض السنباطي ببطولة فيلم "حبيب قلبي" عام 1952، رغم أن هذا الأستاذ الموسيقي الكبير، لا يتوقع منه إلا أن يؤدي دوراً واحداً هو ما ذكره محمد عبد الوهاب، حين وصفه بالرجل المحترم مع طربوش وعصا وكرفتة بدبوس.

طينة الموجي تختلف، فهو ليس بطربوش وعصا، ويستطيع خوض مغامرة التمثيل. لم لا؟ يستطيع الغناء ولديه صوت جميل من طبقة صوت عبد الحليم، فلم لا يغني ويكون هو "الزمارة" التي تؤدي لحنه.
كان يفكر بأن الغيوم التي يسوقها بيده، عليها أن تكف عن الإمطار في أراضي الآخرين.

ليس الموسيقار محمد القصبجي الذي رضي بالجلوس على كرسيّ الخيزران خلف الست، هو ما سينتهي إليه هذا الشاب الذي لمع اسمه في الخمسينيات وترسخ في الستينيات.

لكن الموهبة والحظ والظروف دفعت اسم الموجي عالياً في لوح مخصص للطبقة الأولى من الملحنين. بينما صفقة النجوم والجماهير تقول إن ما يتبقى من تصفيق بعد المغني يذهب للملحن.
أما ما يدفع لانفجار العلاقة بين الملحن ومغنيه، أو المغني وملحنه، هو الحقوق المالية. فإذا قبلنا حصتنا من النجومية والتصفيق، فلماذا يكون الفارق في الأجر فادحاً؟ عبد الحليم يصل سريعاً إلى 14 ألف جنيه عن بطولة الفيلم، بينما الموجي ملحن الأغاني 200 جنيه.

لذلك كانت صداماته دون تردد مع الصاعد بقوة، عبد الحليم. لقد بلغ انفعال الموجي بسبب خلافه أن رمى يمين الطلاق "علي الطلاق لن ألحن لك لثلاث سنوات"، وذهب لمغنين آخرين مثل صباح، ومحرم فؤاد، وماهر العطار.

إلا أن الاثنين، قطعا معاً درباً بكل ما فيه من سهل ووعر، وبقي عبد الحليم يتنقل بين الموجي وكمال الطويل، وبليغ حمدي، ومع محمد عبد الوهاب.

التوتر، كما يعلن الموجي، هو الدافع الذي يعتاش عليه فنياً، لا الوحي. إنه يعمل تحت الأزمة، ويعمل ويبدع تحت ضغط الخصام الصعب كالذي وقع مع أم كلثوم.

إنه لا يريد مواجهة مع الست، الآمرة الناهية بسلطة الفن والتاريخ الغنائي المصري. المواجهة مع العندليب، أو مكاسبة بليغ حمدي على الحصص، أقل كلفة من مواجهة كوكب الشرق بأسره.

ظهرت أخيراً أغنية "للصبر حدود" عام 1964 بعد أن وصلت إلى المحكمة، إذ بقيت القصيدة لديه شهور طويلة ولم ينجزها، فقاضته السيدة.

ليس هذا فحسب. أم كلثوم تتدخل وتغير وتضيف وتحذف في اللحن. تأزمت الحال إلى أن عقدت صفقة احترام متبادل بينهما، مفادها أن الموجي يريد أن يكون "بروش" على صدر فستان المغنية، على أن تكون للبروش الموجي هويته واضحة.

قبلت أم كلثوم، بل أعجبتها وصفة "البروش" من الملحن، موافقة على أن يذهب لإنجاز القصيدة المقبلة دون صدامات. كان ذلك عام 1968، وكانت الأغنية "اسأل روحك" التي ستذاع عام 1970.

يعرف أساتذة الموجي من عبد الوهاب والقصبجي والسنباطي، قيمته وتجديده في الموسيقى منذ أوائل الخمسينيات، ويعرف ذلك مجايلوه، مثل كمال الطويل وبليغ حمدي.

كانت أغنية "أنا قلبي ليك ميال" غير بعيدة زمنياً عن "صافيني مرة"، غير أن الأولى جاءت "قدم السعد" بحسب الموجي، له وللفنانة الشابة التي دخلت القاهرة باحثة عنه، وهي لم تكن إلا فايزة أحمد.

يجهل الموجي كتابة النوتة. وهذا ليس نقيصة، كما يشير الناقد الفني طارق الشناوي، الأمر الذي ينطبق على محمد عبد الوهاب.
ويضيف الشناوي في "حكاية أغنية" أن الأمر يعود لعدم دراسة الموجي أكاديمياً، لكن الموسيقى جرت بين يديه بالسمع، حتى إنه يلحن أغنية "بالموهبة الربانية" دون أن يعرف على أي مقام.

بهذه الموهبة المتشربة لروح المقامات يلاعب الموجي مقطع "بحياتك يا ولدي امرأة"، كما يوضح أستاذ النقد الموسيقي أشرف عبد الرحمن، فيغنيه أول مرة على مقام الهزام، ويعيد غناءه ثانية على مقام الكرد.

يفضل الموجي أن تذكر أغنية "جبار" (1967- فيلم معبودة الجماهير) بوصفها إحدى علاماته الموسيقية. وهو يعرف أنها ستأخذ مكانها مع التوزيع الأوركسترالي، الذي تكفل به أندريا رايدر، اليوناني الذي له فضل كبير في الموسيقى التصويرية السينمائية، وتوزيع أشهر القطع الموسيقية لمحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، والمغني السوداني محمد وردي في أغنية "الود".

وبحساسيته المفرطة تجاه العبث بموسيقاه، كان يرى مثلاً أن أغنية "مغرور" لم تكن تحتمل هذا القدر من التوزيع الموسيقي الذي فرضه عبد الحليم، كما انتقد خروج حافظ عن روح الموشح في أغنية "كامل الأوصاف".

جال الموجي في عوالم الفنانين، مكتشفاً أصواتاً جديدة، ومقدماً كماً كبيراً من الألحان بعضها طبق الآفاق وبعضها خبا لظروف وحظوظ لا يعرف هو تفسيرها، كما هي الحال مع نجاة الصغيرة التي حلقت بموسيقى عبد الوهاب، وبليغ حمدي أكثر مما وقع معه.

هناك كيمياء موسيقية وجدت نفسها في لحن للموجي وصوت فايزة أحمد، لكن أغنيات نجاة الصغيرة مع الموجي ظلت أقل سطوعاً، حتى جاءت "عيون القلب" عام 1980، من كلمات عبد الرحمن الأبنودي.

عاد إلى نجاة التي يقدر صوتها، ويقدر حتى النمط الذي يصفه بها، حين يقول إن صوتها تقولب لكأنه "يرتدي طرحة سوداء"، معتقداً بأن هناك إمكانية لاستثمار الصوت في تعبيرات مختلفة. ورغم هذا جاءت "عيون القلب" حالمة مغرقة في الحنين والشجن، كأنها تنتظر طرحة بيضاء.

كان الموجي يبحث عن مشاريع جديدة، بعد غياب عبد الحليم عام 1977، ببعض الرجاء وكثير من الخيبة، شاهدها مع جيل الكاسيت، الذي يستخدم الكثير من "الدوشة" ليغطي على فقر إمكاناته الصوتية. كان الموجي مخلصاً لشغله الموسيقي، جريئاً في اقتراحاته الموسيقية منذ دخل عالم التلحين منتصف القرن الماضي.

الموجي الذي ترك نفسه نهباً لأضواء القاهرة، هو صاحب أسرة من ستة أبناء بالشراكة مع ابنة عمه، ذو شارب رفيع يقسم الشفة العليا، بقي يدققه بعناية حتى آخر عمره، ويبدو مناسباً لرجل من الطبقة الوسطى في روايات نجيب محفوظ.

ومع عود ملازم له، سيكون جاهزاً للتلحين في أي وقت، دون انتظار الوحي الملهم، بل تحت مزاج متوتر. هذا المزاج هو الأب الروحي للإلهام. أليس التوتر وحي الفن؟ الفن حالة متطرفة لا وسطية فيها.

المساهمون