محمد القرفي: أسقطنا النظام التونسي ولم نسقط ثقافته

12 أكتوبر 2015
محمد القرفي مع منصور الرحباني 1990
+ الخط -
قسم كبير من جمهور الموسيقى العربية الأصلية، لا يعرف على ما يبدو الدكتور محمد القرفي المؤلف والباحث الموسيقي التونسي. وقد كتب منصور الرحباني في تقديمه لكتاب القرفي "صفحات من الموسيقى العالمية"، ما يأتي :"كأني بك في كتابك، تحتضن المؤلفين والناس لتجعلهم وحدة متناغمة، وأنت تريد أن تجعل من الكل مبدعين".
عادة ما تتم الإشارة إلى "زمن الطرب الأصيل" من خلال ندوات الموسيقى العربية مثلًا، بمصطلح الأزمة والتحسر على زمن ذهبي مضى، إلا أن الموسيقي التونسي يبدو بعيدًا من هذه "الفلسفة"، يقول في ذلك لـ "ملحق الثقافة" :"قبل كل شيء أعترض على كلمة فلسفة، فلا يجب تحميل الموسيقى ما لا طاقة لها به. هناك أفكار واتجاهات ينبني عليها العمل الموسيقي، لكنها ليست حاسمة، إذ توجد عوامل وجدانية وجودية وعاطفية، وأسباب أخرى قد يستعصي فهمها حتى من قبل الفنانين، لذا من الأفضل الاكتفاء بالأثر ومحاولة التعمّق فيه. ثمة مثلًا العديد من الشعراء العرب الممتازين الذين لا تعكس حياتهم اليومية وخياراتهم المعيشية قيمة قصائدهم؛ فهل نقيم الأثر، في هذه الحالة، من خلال الشخص ونرى مدى التطابق ثم نحكم، أم نكتفي بالأثر؟".
إلا أن فكرة رائجة تقول إن غياب نقّاد بالمعنى الأكاديمي في الوطن العربي، كانت ربما السبب في توليد مصطلح "الأزمة". الأمر الذي يخالفه القرفي إذ يقول :"صراحة لا أعتقد ذلك، مع اعتذاري لأقلية أكن لها الاحترام. ومسألة التباكي على زمن الطرب الأصيل، تختزل وجهة نظر تفيد ضرورة إعادة تلك النماذج الموسيقية، ما يعني الارتهان الماضي وإعادة "تدوير" جهد الآخرين. المتباكون على الماضي هم الأكثر إساءة له، فالطرب هو مخزون موسيقي في المخيال الجمعي، يتم استدعاؤه من خلال تكرار أدائه في ظروف يعلم فيها الباثّ مسبّقًا وآليًا، المطلوب منه. في المقابل يجهّز المتقبل نفسه عن سابق قصد وإصرار، لقالب تفاعلي، نعلم جميعًا تفاصيل تجلياته. هنا يراودني تعريف الفيلسوف الألماني هيغل للفن بكونه "شكل من أشكال التأسيس لأخلاق جديدة". فهل ينطبق هذا المفهوم على الموسيقى الطربية؟ لا أظن ذلك. لذا أتصور أن أحد أضلع هذه الأزمة هم نقّادها وموصّفوها".
اقرأ أيضًا : حسين الأعظمي لم يعد للفن مكانًا في العراق
يميل الموسيقي التونسي إلى الجدية في النظر إلى الموسيقى العربية، ولا تفوته ملاحظة تأثير المستوى "الهابط" عليها، إلا أنه يضع الأمر ضمن منظور أوسع :"أنا أؤمن بالتحليل المنطقي والتاريخي : الذوق العام كيف كان منذ مائة سنة وكيف هو اليوم؟ ما هي المناطق المشتركة بين الماضي والحاضر، وما هو الفرق؟ هل ارتقى الذوق العام بنفسه آليًا أم أن هناك عوامل تؤدّي إلى الارتقاء أو التراجع؟. لقد شهد الذوق العام الموسيقي في أوروبا هبوطًا خلال فترة ما بين الحربين، فهي فترة انحطاط لأنها مرحلة مخاض، عادة ما تلي الحروب والأزمات العميقة. لكن الغرب قرر الاتجاه نحو المستقبل، لم يفتش عن حلول سهلة على غرار الحنين إلى الماضي الجميل. لاحظي معي أداء الإعلام اليوم ما هي الموسيقى التي يسعى إلى تسويقها؟ ما هو مستوى الذين يختارون الموسيقى ويتحكمون في السوق؟ هل هؤلاء هم الذين سيحققون قفزة نوعية على مستوى الذوق؟"

إنتاجات "جديدة"؟

ومن المنظور نفسه ينظر إلى جدلية التراث / الحداثة في الموسيقى العربية :"كل أمة تهتم وتثمن ماضيها على أن لا يتحول هذا الماضي إلى مخدع سكينة تلوذ به، عن تحديات الحاضر والآتي، هذا هو مرتكز الفكرة التي كررتها على مدى عشرات السنين وعانيت من ورائها الأمرّين .عندما أتحدّث عن استجلاب الماضي عنوة وتوطينه قسرًا في ظروف لا تمت له بصلة، باعتبار أن الموشحات الأندلسية مثلًا، نشأت زمن الحمام الزاجل وليس مع الإرساليات الإلكترونية، فلست أقصد أن أرمي من وراء ذلك، ترديد هذه الموسيقى فقط، فذلك قد لا يزعج، أما الازعاج الحقيقي فيتأتى من إعادة إنتاج تلك الموسيقى بصفة رديئة و من دون أهداف واضحة والإيحاء بأننا أمام "إبداعات" جديدة. فالعديد من الألحان السيّارة التي نسمعها اليوم، مأخوذة من المخزون السمعي للذاكرة لتخرج في ما بعد، في شكل قوالب وجمل لذلك، هي تعجب المتلقي لأنها موجودة في المخزون السمعي الطربي لديه من دون أن يعي ذلك".
وقد فسّر البعض ميل زياد الرحباني مثلًا إلى تلحين أغاني لـ "فنانات السوق" تراجعًا، وينطبق الأمر عينه على ما يقدّمه اللبناني مارسيل خليفة، حيث ينظر إليه باعتباره غير حامل لأي تجديد. وفي مقابل ذلك تبدو بعض الأصوات العربية التي تعيش في الغرب وتقدّم هناك فنّها كما لو أنها "مناطق مضيئة" في الموسيقى العربية، فضلًا عن واقع لا يخفى على أحد، ويتجلّى في سيطرة الشركات الموسيقية الضخمة على سوق الموسيقى العربية. يعلّق القرفي على الأمر قائلًا :"المناطق المضيئة في الموسيقى العربية التي يحترمها الغرب، هي تلك التي تشارك في الحراك الإنساني العام وتضيف إلى الفنون مساهمات في تنمية اللغة الموسيقية العالمية. أما باقي الموسيقى التي تستجيب إلى منطق السوق وإلى سيطرة المال على الذوق العام أو ما يسمى "شو بيزنس" فهي إلى زوال، كالأنفلونزا العابرة. من المؤسف أن بعض الموسيقيين المحترمين يضعف أمام الإغراءات المالية بعد ما صار له رصيد من الثقة، فيُلصق اسمه وقيمته بأسماء لا تستحق حتى الذكر. قد يكون ذلك إحدى المؤشرات الدالة على تردي الوضع الاقتصادي العام، وصعوبة توفر المناخ الملائم للفنان ليعيش حياة كريمة ويتحرر من كل أنواع القيود".

السياسة الثقافية

تعكس بعض أعمال القرفي مثل أوبريت "الغصون الحمر" و"قصائد الوطن المحتل" حساسية خاصة للشأن العام الوطني والقومي، ما استدعى السؤال عن دور الثقافة عمومًا والموسيقى خصوصًا بعد ثورة تونس 2011. فأجاب قائلًا :"ما حدث في تونس، أننا أسقطنا بن علي، لكننا لم نسقط ثقافته وآليات عمله. فالسياسة الثقافية في بلادنا التي امتدت على مدى ستين سنة من الاستقلال، وأفرزت بلدًا من دون أوركسترا سمفونية، ما زالت متواصلة. لدينا مثلًا خيرة العازفين، بينما في الواقع إذا أردنا إنجاز عمل موسيقي مستوفي الشروط العلمية، نجد أنفسنا مضطرين للاستنجاد بعازفين من الخارج. وهذا ما قمت به في أكثر من مناسبة. فكيف يمكن تصور أفق جديد للثقافة في بلادنا، ونحن على هذا النحو من التلاشي؟. الفن يرفض بطبعه اللغة الخشبية، والفنان إما أن يكون مختلفًا ومشاكسًا، أو ليحجز مكانًا له في القطيع. من حق الفنان التأثّر بهذه الشخصية أو تلك، لكن ليس من حقّه الانحدار إلى حضيض الولاء، في سبيل الفوز بمنصب أو إدارة، وهذا ما يحدث اليوم في تونس. لم نشهد في بلادنا نموذجًا على غرار ما حدث في التجربة الفنزويلية، ففي العاصمة كاراكاس قبل الثورة، تم تسجيل أكبر نسبة إجرام، أما اليوم فتمتلك فنزويلا ألف أوركسترا بفضل منظومة فنية أرساها الموسيقي والاقتصادي جوزيه أبرو، الحائز على جائزة نوبل عام 2002. قام جوزيه بأخذ أطفال صغار من الشرائح الفقيرة، الذين يحملون مسدسات ويقاتلون. احتضنهم وأقام لهم مدارس وعلّمهم إلى أن أصبحوا اليوم بفضل الموسيقى، يقدمون عروضًا هائلة أبهرت العالم.
اقرأ أيضًا: فن المقام العراقي
ولو قارنّا بين تونس وكوريا سنة 1950، حيث كان كلا البلدين يشهدان المستوى الاجتماعي نفسه، من فقر وتدهور اقتصادي، فأين نحن من كوريا اليوم؟ الكل يتحدث عن أوركسترا بيونغ يانغ وأوركسترا سيول وتطور تقنياتهما. بينما لا تزال الأرضية الفنية في تونس مفقودة. بالإمكان "اقتناء" حضارة لكن ليس سهلًا صنعها. المعضلة الأكبر، أننا لا نتعظ بتجارب غيرنا المفيدة والمثمرة، بل نأخذ فقط السيئ منها. نحن في وضعية مشوّهة على المستوى العربي والإسلامي باستثناء بعض البلدان التي لها تقاليد قديمة متواصلة ومناخ موسيقي متطور، بشكل تكون معه قادرة على إنقاذ نفسها بنفسها كلبنان وإيران ومصر".
تحمل المقارنة الآنفة سؤالًا عن العلاقة بين الموسيقى والسياق الاجتماعي الذي يفرزها، الأمر الذي يوافق عليه القرفي، إلا أنه يربطه مجددًا بالسياسة الثقافية في تونس : "الموسيقى هي إفراز مجتمعي بالضرورة يلتبس فيه الخاص بالعام. طبعًا ثمة إفرازات سيئة وأخرى جيدة، إذ ليس كل ما يفرزه المجتمع جيدًا، وقد يتضمن أجسادًا تخلّف سمومًا. الموسيقى، أيضًا، يمكن أن تطالها هذه السموم؛ مثل موسيقى" الراب" التي تجتاح مسارحنا في تونس، تحت عنوان "دمقرطة الفن". فهل تقتضي الديمقراطية حلول الرديء الغالب محل الجميل "الأقلوي"، كاستعمال بعض الأحزاب السياسية الآليات الديمقراطية لقتلها من الداخل؟ ثمّ من هو الجمهور الذي يذهب لمتابعة هذه العروض؟ أيجوز انتقاد الحكومات في كل الاتجاهات ومطالبتها بالمعقول وغير المعقول، من دون مسائلتها عن سياساتها الثقافية؟ أثمة حزب وحيد في تونس يملك رؤية ثقافية؟ لماذا تسمح الحكومات بدمقرطة الفن على هذا النحو الشعبوي، وحين تخرج مظاهرات قانونية باسم الديمقراطية، تجابه بالعصي؟ ما هذا التسطيح وهذه الموجة التي تنادي باستيعاب جميع الألوان؟ ما هذا الخنوع للأغلبية، والأصل أن الفنان فرد و"أقلوي" بالضرورة؟" ويلاحظ أثر السياسي في الثقافية : "كل الحكومات التي تعاقبت على المشهد السياسي، حكومات محاصصة حزبية وولاءات شخصية، تحركها تجاذبات وأجندات خارجية، وقد أثبتت مدى انفصامها عن الواقع وبالتالي فإن مقاربتها للثقافة بدائية وسطحية. ربما لأنها لا تفقه فيها أصلًا ولا تعرف مدى تأثير الثقافة في تنمية الفرد والمجتمع. وقد رأينا وزراء الثقافة المتعاقبين يعيدون إنتاج النموذج القديم ويتداولون تكريس المسكّن الترفيهي الظرفي الذي سار على منواله من سبقهم من دون أي مراجعة جذرية لواقع الأمور. وكأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان".


الثورة والموسيقى الملتزمة

أثرت ثورة تونس كما يبدو في الثقافة والموسيقى، فعادت الموسيقى الملتزمة، مالئةً الفضاءات الثقافية. لكن هذا المشهد "الجديد" لا يخدع الموسيقي الملتزم، إذ يقول :"يجب التفريق بين الهواية والاحتراف. كثير من المجموعات مثل "الحمائم البيض" و"البحث الموسيقى" هم من الهواة لا الموسيقيين المحترفين. كانوا طلاّبًا في الجامعة وعبّروا عن مواقفهم النضالية في إطار الهواية ثم أقلع بعضهم عن ذلك. وبعد الثورة عادوا للعمل ونُفض عنهم التراب. الأصل أن الموسيقى ملتزمة بطبعها، وليست في حاجة الى شعر سياسي لتكتسب هذه الصفة. الالتزام هو التزام بضوابط الفنّ ؛ الصدق الفني والإتقان والمعرفة مهما كان الموضوع".
ومن ناحية أخرى، فإن اسم القرفي اقترن أيضًا بموقفه النقدي لمفهوم الهوية الموسيقية التونسية، فأوضح أكثر :"لا تعكس أطروحة الهوية الموسيقية التونسية واقعًا بقدر ما تعكس هدفًا. وعلى هذا الأساس، لا أوافق على التفريق بين مشرقي ومغاربي، لأنها تفرقة سياسية وجدت في تونس وأسّس لها صالح المهدي في المجال الموسيقي، وزبير التركي في المجال التشكيلي، أو ما عرف بـ مدرسة تونس. لقد سعوا في تلك الفترة، إلى فصل تونس عن الأمة العربية، واستكمال رسم الحدود في الواقع، بحدود في الذهن. للأسف فإن هذا الطرح، يجافي طبيعة العمل الفني الذي يرفض الحواجز أو الانتماء الضيق. فأنا لا أنتمي إلى أي تيار، وإنما إلى كل ما هو متقن وجيد.
في بداية مشواري الموسيقي أعجبت بألوان غير موجودة في الساحة التونسية، استمعت إليها في الراديو وما شدّني فعلًا هو الموسيقى المتقنة والصادقة والمنبثقة من الوجدان كي تنفذ إلى الوجدان. الموسيقى الجيدة هي فقط التي تنفذ إلى وجداني، فأغنية مثل "يا زهرة في خيالي" لفريد الأطرش عمرها أزيد من سبعين سنة. حين تنصت إليها تشعر بوجود حرارة بشرية ودفء إنساني، ينبعث منها الصدق بشكل يسقط عنك حدود الهوية الضيّقة لصالح ما هو أشمل وأرحب. هوية الفنان تتشكّل من المخزونين المعرفي والسمعي، وليس عبر شعارات إيديولوجية مسقطة ومحنطة. ناهيك أن الهوية متغيرة ولا تتوقف، فهي عبارة عن ردة فعل تفاعل كيميائي. من الخطأ القول إن الهوية تتوقف. الحضارة العربية الإسلامية كانت دومًا حضارة متقدمة، بمعنى أنها تتقدًم شيئا فشيئا. وبالعود إلى أطوارها نجدها مختلفة : منذ ظهور الإسلام ثم صدر الإسلام ، فالخلافة الأموية العباسية، الأندلس. وكل طور له كيانه وله خصوصيته". تبدو الهوية في السياسة مفهومًا قوميًا لدى القرفي، بينما تغدو في الفنّ مفهومًا إنسانيًا، وهو ما أكدّه قائلًا :"يقول الموسيقار الألماني بيتهوفن، الفن أسمى من الحكمة والفلسفة، وأضيف ومن السياسة أيضًا. لا يمكن للإنسان أن يعيش مشردًا كحيوان البرية من دون هوية. هويته هي انتسابه إلى حضارة وثقافة، وإلى قوم يعيش بينهم بما لديهم من مكونات سلبية وإيجابية، وهي التي تحدد كينونته ولكن من دون إفراط أو تطرّف. والفن، من حيث هو إبداع حسي واعي، يتجاوز هذه المواصفات الشكلية ويستمد من روح الإنسان ووجدانه، ويعبّر عن مضامين وأحاسيس تتقاسمها الإنسانية في أي مكان من دون حاجة إلى تفسير لغوي. لكن السؤال الذي يظلّ مطروحًا: كيف يمكن للبشرية أن ترقى إلى هذا الطور؟"
المساهمون