محمد الصغيَّر أولاد أحمد: قيادة شعريّة بلا بوصلة

18 أكتوبر 2015
(أولاد أحمد أمام نصب لـ جبران)
+ الخط -

في الأشهر الأخيرة، تعكّر الوضع الصحّي للشاعر التونسي محمد الصغيَّر أولاد أحمد (1955)، ووجد نفسه موضوعاً للاحتفاء الرسمي، رغم موقعه المُعارض الذي حرص عليه طوال مسيرته.

كانت آخر هذه الالتفاتات حفل تكريم نظّمته وزارة الثقافة في شكل "مجاملة رسمية" لم يحظ بها من قبلُ شاعر تونسي على قيد الحياة. وهو ما يجعلنا نتساءل عن موقع "المثقّف المعارض"، الذي بنى عليه أولاد أحمد وغيره، مجدهم الأدبي.

ينتمي صاحب "جنوب الماء" إلى جيل دخل الجامعة التونسية في نهاية السبعينيات، في خضم الصّراع الطلاّبي، خصوصاً بين اليسار والإسلاميين. انحاز أولاد أحمد إلى الشقّ الأول ملقياً بشعره في هذه المعركة، إضافةً إلى المعركة الأكبر ضد النظام.

مثل شخصيته، كان شعر أولاد أحمد خفيف الظلّ والعبارة، يبحث عن الطرفة المقتبسة من الحياة اليومية ومأساتها، في قالب لم تتعوّد عليه الذائقة الشعرية في تونس.

مثّل هذا النموذج الشعري تجسيداً لبديل ثقافي منشود (نهاية الثمانينيات)، فالتقط الإعلام والملحّنون كلماته، لتصبح حالة خدمها عمله في الصحافة ومقالاته التي لم تبتعد كثيراً عن مناخات شعره، وإن وجدت في النثر مساحات أكبر للإطلالة على الفكر والنقد والسياسة.

لكن الناظر في مجمل ما أنتجه أولاد أحمد، حتى اليوم، لن يجد أنه قطع مسافةً طويلة. حتى أنه من العسير تقسيم شعره إلى مراحل.

عرف أولاد أحمد التضييق البوليسي وجرت مصادرة مجموعته "نشيد الأيام الستة" المفعمة بالاحتجاج. لكن، مع وصول بن علي إلى السلطة رُفعت المصادرة، ليدخل الشاعر في نسق نشر كبير، بدا من خلاله وقد لانت حدّة خطابه.

لم يعد طرده من العمل وسَجنه نيشانه الذي يتجوّل به، بل اقترب من السلطة، وهو ما تدلّ عليه سلسلة أعماله التي نجد بينها "ليس لي مشكلة" و"تفاصيل" و"لكنني أحمد"، والتي بدت للبعض رسائل إلى السلطة تُؤذن بانتهاء الخلاف. من جهتها، لم تتأخّر السلطة في تقديم مكافآتها، فأنشأت في التسعينيات مؤسسة "بيت الشعر" وعيّنته مديراً عليها.

تجاوُزُ الزمن لأولاد أحمد يمكن قراءته مكانياً، فهو الذي كان يقول عن نفسه إنّه من مثقّفي "الحانة"، حيث مثّلت الحانات في السبعينيات والثمانينيات ملتقى شريحةٍ من المثقفين الذين أُوصدت في وجوههم الفضاءات العموميّة.

غير أن النسق التصاعدي للثقافة تجاوز الحانات مع ظهور الفضاءات الخاصّة وهامشٍ طفيف من الحرّيات، ثم بانفتاح الفضاءات الافتراضيّة للتعبير والنشر. ناهيك عن كون الحانة كانت دائماً مرتعاً للمخبرين، يختلط فيها الحابل بالنابل، ما جعل جزءاً هامّاً من المثقّفين يهجرها إلى النوادي.

لكأن أولاد أحمد لم يعترف بهذا التغيّر الزمني فواصل التصاقه بالحانة، مثله مثل شريحة كبيرة من المثقّفين. ومع تدهور وضعه المالي بخروجه من "بيت الشعر"، انغمس في الجَوَلان الليلي بين الحانات، مع توقيف قريحته على معركة الجامعة القديمة واعتبار الحانة ممارسَة لحريّة المعتقد.

مع الثورة، تزعزعت مركزية السلطة، فتخلّت عن مثقّفيها، بمن فيهم مُعارضوها. هنا، أضاع أولاد أحمد بوصلة الشاعر، وإن حافظ على الشعر كشكل، لتطغى عليه صورة السياسي الذي يكتب بيانات شعريّة (مجموعته الأخيرة "القيادة الشعرية للثورة التونسية" نموذج دالّ).

حاول أن يعود إلى دائرة الضوء (القيادة الشعرية) بعد الثورة بالقميص القديم نفسه؛ الشاعر المنبوذ زمن النظام السابق، لكنه لم يكلّف نفسه سوى إعادة تقديم قصائده القديمة.

لعل المثال الأبرز في ذلك، نشيده الشهير الذي يقول فيه "أحب البلاد كما لا يحبّ البلاد أحد". في لحظة ما، وكأن "المثقّف المعارض" حاول أن يحتكر حب البلاد، لكنه نسي خلال هذه المسيرة تطوير قصيدته، حتى أنه إلى اليوم يتحرّك داخل المعجم نفسه.

اقرأ أيضاً: محمد العريبي.. بوهيمي تحت السور

دلالات
المساهمون