محمد اشويكة: "الأفلام المغايرة تدفع المتلقّي إلى التأمّل وطرح الأسئلة"

30 مارس 2020
اشويكة: السينما المغربية خاضعة لتوجّهات صنّاعها (الملف الصحافي للناقد)
+ الخط -

مع صدور كتابه الجديد، "السينما المغربية: من الخدمة العمومية إلى النقاش العمومي" (2020)، يصل الناقد المغربي محمد اشويكة إلى عتبة جديدة من مشروعه النقدي، المتّصل بالسينما المغربية وخطابها الجمالي. فالكتاب يغوص في مواضيع لها علاقة بالفضاء العمومي ونقاشاته السجالية عن السينما المغربية، ويتوقّف عند أهمّ اللحظات الأليمة الخاصّة ببعض الأفلام، بطرحه سؤالاً خفياً عمّا إذا كانت أفلام سينمائية تُثير نقاشاً معرفياً وجمالياً عند المثقفين، وفي الأوساط الشعبية، عبر نقاشات سجالية، تطرحها هذه الأفلام بعلاقتها بـ"سنوات الرصاص" والجنس وغيرها، على خلفية سوسيولوجية.

إنّها المرة الأولى التي يظهر فيها نمط الكتابة الخاصّة باشويكة، مُقارنة مع دراساته الأخرى، بسبب طبيعة الموضوع، المتناغم حقيقةً مع المجتمع.

في هذه المناسبة، التقت "العربي الجديد" اشويكة في حوار يرتكز أساساً على مداخله المنهجية والموضوعية.

كتابك الجديد يدخل ضمن مشروع نقدي بدأته قبل أعوام حول السينما المغربية. ما التقييم الجمالي والموضوعي لهذه السينما، التي لا تزال تجارب عديدة منها تلهث لخلق لغتها الخاصة؟
منذ الجزء الأول، "السينما المغربية: أطروحات وتجارب" (2008)، ينظر مشروعي البحثي النقدي التأمّلي إلى السينما المغربية بشكل كلّي ينسجم مع ما هو جزئي. لذلك، تناقش أجزاؤه الـ6 قضايا نظرية عامة، أعتبرها مداخل "أطروحاتية"، يُعزّزها تحليل نماذج فيلمية تخصّ تجربة إخراجية كاملة، أو فيلماً معيّناً. هذا تطلّب منّي انفتاحاً نظرياً ومنهجياً ومفاهيمياً على حقول معرفية متعدّدة الروافد والمرجعيات، إذْ لا يُمكن مقاربة الظاهرة السينمائية عامة، والمنتوج الفيلمي خاصة، من زاوية واحدة.



يُمكن القول إنّ التجربة الإبداعية السينمائية المغربية ليست واحدة، بل متفاوتة القيمة والجدّية. هناك الناضج، وهناك من يتلمّس طريقه إلى توطيد أسلوبه الفني، وتقديم رؤيته التأويلية للّغة السينمائية. بالتالي، الحديث عن الحساسية، التي ولّدتها أعوام التراكم، يتناوله كتابي المقبل المندرج في هذا المشروع.

مضامين الكتاب تحيل مُباشرة إلى المفكر يورغان هابرماس، وتأثيره الكبير على طبيعة الكتابة لديك. ألا ترى أنّ طروحاته تبدو مجرّدة، بحكم صعوبة الحديث عن فضاء عمومي مغربي، لعدم قدرته على خلق نقاش معرفي وسجالي حول السينما، انطلاقاً من نماذج فيلموغرافية مغربية؟
لا يُمكن للفكر أن ينتظر المجتمع، فهو عملية ذهنية ومعرفية معقّدة، تُسمّى الاستشراف. مفهوم الفضاء العمومي في المجتمع المغربي محكوم بالظروف المتحكّمة به، لأنّ إسقاط التجارب عملية محفوفة بالمخاطر. لذلك، فإنّ مفهوم الفضاء العمومي، كما طوّره هابرماس منذ ستينيات القرن الماضي، في مجال العلوم الاجتماعية، لا سيما ضمن مجال التواصل، يحيل إلى التئام مجموعة من الأفراد لمناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك. بزغت هذه الفكرة في أوروبا الحديثة، لا سيما في الفضاءات البورجوازية العامة، التي عملت على مواجهة القوى المطلقة. الغرض من هذه الفضاءات نشر قيم المجتمع والدولة، والعمل على وضع الدولة المسؤولة أمام المجتمع عبر آليات التواصل.

الفضاء العمومي المغربي يبدأ من الفضاء الخاص، عبر آليات التواصل الاجتماعي، ليصل إلى الفضاء العمومي، كما تمّ توضيح ذلك في الكتاب. التعليق الإلكتروني مجرّد صدى لما يسود في المجتمع المغربي من نقاش حول بعض القضايا الحساسة، كالحرية والجنس والدين والسياسة، التي تناقشها أفلام عديدة، للدفع بالجدل والسجال حولها إلى النقد. هذا هو الجوهر الفلسفي لمفهوم الفضاء العمومي.

يطرح الكتاب مجموعة قضايا لها علاقة بالنقاش العمومي الذي تثيره السينما في المغرب. برأيك، ما هي الخلفيات المعرفية والتدابير الإدارية التي تعيق المسار التنموي للسينما المغربية، الذي جعلها في الأعوام الأخيرة مائعة، رغم الدعم المادي الكبير الذي تحصل عليه بعض هذه الأفلام؟
لا نستطيع الحكم على أنّ السينما المغربية مائعة، لأن ذلك يدخل في أحكام القيمة العامة. لكن، يُمكن الإشارة إلى ظواهر تستدعي المواجهة، كبروز "قنّاصين" للدعم، لا يمتلكون التكوين والخبرة الكافيين، لكنّهم يحصلون على المال العام، ما أثّر بشكل كبير على الإنتاج والمهنية والإبداع في آن واحد. أمور كهذه تتطلّب إدخال تغييرات جذرية على السياسة التدبيرية للشأن السينمائي المغربي، أوّلها إعادة النظر في الوضع القانوني والتشريعي والمهني لمدير "المركز السينمائي المغربي"، إذْ لا يُمكنه أن يكون حَكَماً وخصماً في آن واحد، أي ألا تكون له يد في الإنتاج وأخرى في الإدارة. فَكّ ارتباط المصالح ضروريّ لضمان الحياد؛ وثانيها، إعادة هيكلة لجان الدعم، إذْ لا يُمكن تحقيق درجات عالية من الإبداع والجودة ضمن الشروط الحالية واللجان غير المستقلّة، التي ليست لها مرجعيات ورؤى متقاربة.

لذلك، فإنّ السينما المغربية رهينة توجّهات الطرفين معاً، على مستوى اختيار شركات الإنتاج، التي تظفر بالدعم، وبالنسبة إلى المخرجين الذين يحملون سيناريوهات لها حمولات موضوعاتية وإستيتيقية معينة. يكفي الانتباه إلى أن مخرجين عديدين ينجزون أفلاماً لا تشبه بعضها البعض، كأنّها صادرة عن ذوات إبداعية مختلفة.

ما السبب الذي يجعل القنوات التلفزيونية تتعامل بشحّ مع الأفلام الجادة، عوض الأخرى التجارية والترفيهية التي تحصل على دعمها السخي؟
التلفزيون موجّه إلى عموم الناس، لذلك يضع نصب عينيه أشكال الرقابات الاجتماعية التي تعتمل في المجتمع كافة، وهي أخطر من أي رقابة سياسية أو أيديولوجية. وبما أنّ السينما المغربية خاضعة لتوجّهات صنّاعها، فالجادّ منها يطرح قضايا حسّاسة ومثيرة، فضلاً عن كونها تتطلّب مرجعيات فنية لتناولها. لكنّ هذا لا يمنع برمجة أفلام من هذه العيّنة، لأن الجمهور سيّار، لا يمكن أن يجرفنا معه. فالأفلام المغايرة، شكلاً ومضموناً، تدفع المتلقّي إلى التأمّل وطرح الأسئلة، والدخول في جدل حول بعض القضايا والظواهر التي تتطلب سجالاً. وأيضاً، يُمكن للمنتجين والمخرجين أن يفكّروا في إنجاز صيغ تلفزيونية من أفلامهم لانتشارها، لأنّ قاعات السينما تتقلّص في المغرب بشكل مأساوي.

إلى جانب عدد من المخرجين المهمّين، يحبل القطاع ببعض المتطفّلين، بسبب ما يتوفّرون عليه من مال للاستثمار في السينما بحساسيات متدنية ومستوى معرفي لا يتجاوز الدراسة الثانوية على الأكثر. كيف يُمكن تجاوز هذه الظاهرة، التي اجتاحت التلفزيون المغربي؟ ما هي الآليات التي يُمكن للدولة العمل بها، للحدّ منهم؟
يُمكن النظر إلى هذه الظاهرة بشكل كلّي في قطاعات الفنون عامة. لننظر إلى من يحمل بطاقة فنان في المغرب اليوم. أناس يفتقرون إلى الموهبة والتكوين والخبرة، وهذه شروط أساسية في ممارسة المهن المرتبطة بالفن بكافة مستوياته وأنواعه وأجناسه. هذا لا يعني الحدّ من حرية التعبير والتفكير عبر الفن، لكننا نتحدّث عن الدعم والمهنيّة. الأمية والجهل طاغيان على الوضع.

والحال أنّ مهام التدبير الإداري تظلّ حامية للقطاعات في شقّها المهني. يجب العمل على التفريق بين الصناعي والتجاري من جهة، والفني والإبداعي من جهة أخرى. أثبتت التجارب الإنسانية أنّ الفنانين العصاميين و"العباقرة" نادرون في مجتمعات الجهل والأمية، والخلل كلّه كامنٌ في أنْ تتولّد داخل مجالاتٍ تحكمها شروط الموضوعية والأكاديمية عينات لا تتوفّر فيها الشروط الدنيا لممارسة المهن الفنية.

المساهمون