محطات في زمن الشاعر

28 يونيو 2014
أنطون باتوف / روسيا
+ الخط -

28 يونيو 2010
من جدة إلى مطار القاهرة ومنه إلى غرفته في بيته - الذي بناه له الشعر، كما قال لي ذات مساء - بين زوجته وأبنائه وأشقائي وجدته ممدّداً. رفع رأسه قليلاً حين اقتربت منه، خلتُ أنه ابتسم. أعاد رأسه إلى الوسادة، قرأت "يس" وصلّيت بجواره في غرفته، في الركعة الأخيرة، سمعت شهقة طويلة، انتهيت من صلاتي، وعلى وقع صوت شقيقي الأكبر يطالب الحاضرين بالخروج، تيقنت أنها كانت "شهقة الموت"؛ فقبلها بعشرين عاماً وفي 28 يونيو 1980 سمعت نفس "الشهقة" من أبي؛ أحد أساتذة مطر الذين كتب عنهم في"أوائل زيارات الدهشة".


26 يونيو 2010
أتاني صوته - لم يكن مجلجلاً كعادته: "إنت فين، طولت السفر؟"، كنت معه قبلها بأسبوعين، قلت له: الآن أمر على شركة الطيران، آخذ تذكرة والليلة أصل. شيء ما أحبط محاولتي في منع نفسي من البكاء، فأنا لم أعتد أن يكون صوته بهذا الوهن. باغتني: لا تربك نفسك، تعال على مهلك، سأنتظرك، لا تخف، لن أموت قبل أن أراك.


يوم في يونيو 1991
بعد يوم من جلسة المحاكمة، التي قال فيها القاضي للمحامي عادل عيد، أحد 17 برلمانياً اضطروا السادات إلى حل مجلس الشعب بسبب فضحهم لاتفاقية "كامب ديفيد": يا أستاذ عادل لا تتعب نفسك بالمرافعة، فالقضية ليس فيها أوراق سوى محضر تحريات، المتهم براءة. في مقهى "زهرة البستان" كان لقاؤنا الأول بعد خروجه من المعتقل، كنت أستحثه على السفر إلى الرملة قريتنا، وكان يطلب مني الانتظار للغد، فربما يكون في حال أفضل صحياً؛ وحتى لا تراه صغرى بناته "رحمة" بوجهه المتعب. بكيت، فضحك وقال لي: "أهو كلام يا عم نزار، يعني الجرح الغائر في أنفي من صعق الكهرباء في المعتقل كيف أداريه". باغتنا أحد مدّعي الثقافة المشهورين بالقدوم للسلام على عفيفي بترحاب بالغ؛ فقابله على غير المعتاد بفتور أكبر. مضى المدعي، فقال لي عفيفي: هذا الـ... كان أحد الحاضرين لجلسات تعذيبي في "لاظوغلي"(أمن الدولة). رحل مطر ولا زالت الأوساط المتثاقفة تحتفي بالدعي، كأحد كتاب القصة والرواية!
لعلها كانت جلسة التعذيب، التي كتب عنها:

"وكان "غويا" واقفاً ويهمّ بالطيران في ألوانه
كان جلاد بكعب حذائه يهوي علي فطقطقت ضلع
ولعلعت الرصاصة فارتمي "غويا"
ارتميت
وليس من وطني سوى هذا الرماد".


يوم في يونيو 1991
أمام محكمة أمن الدولة في مدينة نصر، منتظراً ومتأهباً لسلام عابر في المسافة ما بين الهبوط من سيارة الترحيلات القادمة من سجن طره، والدخول إلى قاعة المحكمة، لمحني ضابط حراسة صغير، حال بيني وبينه بعنف بالغ، ثم احتضنه صارخاً: "عمو عفيفي، أنا خالد ابن الجيران في كفر الشيخ"، تذكره وسأله عن أسرته، وبكى لأنه لن يستطيع فك القيد من يديه، خوفاً من مسؤوله، اعتذر لي ودلفا للقاعة.


يوم في شتاء 1989
قادماً كنت من القاهرة، حاملاً نسخاً من جريدة الجمهورية، لتقرأ أمي اسمي موضوعاً على "قراءة في كتاب، الطريق إلى مكة" لمحمد أسد؛ ووجدت عفيفي هناك جالساً بجوارها يشربان "شاي العصاري". كان يحب الكاتب والكتاب والتجربة. ذكرته أنني استعرت الكتاب منه، فباغتني: عندك فأس؟ قلت له: أكتب بها مثلاً؟! جذبني من يدي فنهضت، نادى على المزارع (الذي يوكله بفلاحة أرضه)، ناولني فأساً وأخذ أخرى؛ وهو يقول: تعال لنتكلم عن محمد أسد، ونحن نحفر جورات؛ لأننا اقتربنا من "خرجة العين" موسم زراعة الأشجار في مصر، وحديقة بيتكم كأنها قاحلة، وبدأنا الحفر.


يوم في ربيع 1989
جالساً كنت بشرفة منزلنا في رملة الأنجب، وإذا "أبو لؤي" قادماً فوق "عربة كارو"، محملة بصناديق خشبية كثيرة؛ مربعة وذات قوائم. بدأ بإنزالها، فنهضت أشاركه، قال لي: بالقرب تماماً من طرف الحديقة التي زرعنا فيها الأشجار من شهور سيكون"المنحل"؛ سأشرف عليه بنفسي وسنتقاسم المحصول من العسل في موسم "القطف"؛ في كل موسم يأتي بماكينة فرز العسل؛ يتركه لنا كاملاً ويكتفي بالغداء معنا، يطلق جملته الأشهر: "ربنا يجعل بيت المحسنين عمار" ونضحك حتى تورق العيون بدموع فرح لم أعد أعيشه.


يوم في صيف 1969
لا أتذكره جيداً، كنت طفلاً يتابع فرَحاً في بيتهم وكبرى شقيقاته تُزف إلى محمد عفيفي مطر؛ وأنا شديد الحنق عليه؛ لأنه سيأخذها إلى بيته البعيد في كفر الشيخ. وكنت أتخيلها وقتها أقصى بقاع الأرض. أذكر أنه رفعني لأعلى من كتفيه، قال لي: إن شئت تعال معنا وسنعود جميعاً ذات يوم إلى البلد، حين نقولها نعني "رملة الأنجب".

... رحمة وسلام عليك أبا لؤي.


* كاتب مصري من أسرة العربي الجديد

دلالات
المساهمون