كان المبدأ الأول الذي اعتمدت عليه المبادرة الخليجية هو "أن يؤدي الحل، الذي سيفضي إليه هذا الاتفاق، إلى الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره". بينما نصت النقطة السادسة من الحلول المقترحة، المرتبة زمنياً في تسع نقاط، على أن "يشكل الرئيس الجديد لجنة دستورية للإشراف على إعداد دستور جديد". وإعداد دستور جديد صيغة مفتوحة على كل الخيارات باعتباره الوثيقة الناظمة للدولة، شكلاً ومضموناً. وبناء على هذا البند، اقترحت أميركا إجراءً مستحدثاً ورد في الآلية التنفيذية للمبادرة ضمن العملية الانتقالية، تمثل في مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي كانت مهمته فتح أعقد الملفات اليمنية من دون التكفل بإغلاقها، وهدفه الأساسي إيجاد مخرجات/ نصوص مرجعية لصياغة الدستور الجديد بناء عليها.
وكان عبد الرحمن الجفري، المقرب من الرياض، قد اقترح، عبر حزبه "رابطة أبناء اليمن"، الفيدرالية كشكل للدولة اليمنية قبل 2011، لكنه بعد هذا العام، وعندما بدأت فصائل "الحراك الجنوبي" بتشكيل هيئات متعددة لها، عاد من السعودية ليكوِّن تياراً حراكياً في الجنوب موالياً للرياض، يمكّنها من الاشتراك بتوجيه القضية الجنوبية وفق مصالحها. وقام الرجل أيضاً بتغيير اسم حزبه إلى صيغته القديمة "رابطة أبناء الجنوب"، أي إنهاء الطبيعة الوحدوية للحزب، وهو ما لم يكن ليحدث من دون موافقة السعودية بحكم طبيعة علاقة الجفري بها، ومن دون وجود معطيات معينة لجعل الجنوب دولة مستقلة. وقد رعت الإمارات، أثناء الحرب، لقاء بينه وبين علي سالم البيض للاتفاق على فيدرالية في إطار الجنوب نفسه. وبالتزامن مع خطوات الجفري، كان هناك ضغط دولي كبير لإيجاد توازن قوى قائم على ثنائية شطرية، شمال وجنوب، إذ قام المبعوث الأممي السابق إلى اليمن، جمال بنعمر، بتقسيم مقاعد الحوار الوطني مناصفة بين الشمال والجنوب (سكان الجنوب يشكلون بين 25 و30 في المائة من سكان اليمن). وعملياً سيطر الجنوبيون على 56 في المائة من مقاعد الحوار، ما أدى إلى خلق انطباع بأن نتيجة الحوار ستكون صناعة جنوبية على حساب الشمال، وإعلان تشكيل "الحراك الشمالي" كمعادل موضوعي لـ"الحراك الجنوبي"، لكنه تلاشى مع تحول الأوضاع من العمل السياسي إلى الصراع المسلح خلال مؤتمر الحوار وبعده.
تقسيم اليمن لأقاليم
دولياً، تم الترويج لتقسيم اليمن إلى أقاليم باعتباره الحل الأمثل للجنوب وصعدة كأبرز قضيتين للحوار، إلا أن الحوثيين، كممثلين لصعدة، و"الحراك الجنوبي"، كممثل للجنوب، كانا أول من رفض تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم اتحادية عبر لجنة شكلها الرئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، من 23 عضواً قامت بتقسيم البلد بتلك الصيغة إلى أقاليم فقيرة وأخرى غنية كوصفة مثالية للصراع مستقبلاً. وانتهى الحوار عملياً من دون إيجاد حل لقضاياه الأساسية، والتي تم التوافق حولها بين هادي وبنعمر، بل إن وثيقة ضمانات حل القضية الجنوبية أعدها المبعوث الأممي وفريقه المساعد، وتضمنت فقرات تنظم مرحلة الانتقال من الدولة المركزية إلى الدولة الاتحادية المنتظرة بطريقة غير قابلة للتنفيذ، بقدر ما وضعت أسساً لتمييز الجنوب عن الشمال دستورياً، ما بدا كأنه تنفيذ لرؤية غير معلنة مثلت إطاراً إرشادياً لاتخاذ تلك الإجراءات بالتنسيق مع الدول العشر الراعية لعملية الانتقال السياسي في اليمن، وليس مع أعضاء الحوار الوطني، رغم كل المآخذ على المؤتمر، كأعضاء وآلية وقضايا حينها. وتم تقسيم البلد إلى أقاليم ضمن الحدود الشطرية السابقة لليمن قبل 1990 (4 أقاليم في الشمال و2 في الجنوب). وأيضاً تم وضع بنود ملزمة التنفيذ تقسم كل المناصب العليا والبرلمان والجيش مناصفة بين الشمال والجنوب، وليس اعتماداً على مبدأ الكفاءة والنزاهة وتكافؤ الفرص، رغم انقسام الجنوبيين أنفسهم حول تلك الضمانات لدرجة تناوب 3 شخصيات على رئاسة فريق "الحراك الجنوبي" بالحوار!
ودفعت تلك الإجراءات الموحية بمستقبل يمن غير موحد إلى ظهور المطامع المناطقية، كإجراء استباقي لكل منطقة لحماية مصالحها في ظل الدولة الضبابية المقبلة، مع رفض عدد من المحافظات الانضواء تحت مظلة الأقاليم المعلنة، كسقطرى والمهرة ووصابين وعتمة، إلا أن "الحراك الجنوبي" لم يكن جاهزاً للتعبير عن مواقفه من مخرجات الحوار كما كان وضع الحوثيين يومها. وشدد الحزب الاشتراكي اليمني، كممثل للجنوب في الوحدة، على ضرورة تقسيم اليمن إلى إقليمين اثنين، شمال وجنوب، لضمان عدم تمزيقه أكثر. ولأسباب غامضة، لم تقم اللجان الأمنية والعسكرية المشكلة وفقاً للمبادرة الخليجية بإزالة المظاهر المسلحة وإنهاء الاشتباكات المسلحة، وكانت تلك ضربة قوية لهيبة الدولة والجيش معاً، فقد تحولت الدولة من منظمة وحيدة يفترض أن تمتلك أدوات القوة المادية، إلى مجرد قوة بين عدة قوى موازية تمتلك العتاد العسكري الثقيل وتشكيلات عسكرية لا يستهان بها، قادرة على تجاوز بعضها وتجاوز الدولة ذاتها، وذلك هو الوضع المثالي لتمزيق أي دولة.
وبعد سيطرة الحوثيين على عمران (50 كيلومتراً شمال صنعاء) بالقوة، منتصف 2014، ظهرت ملامح تفكك تكتل أحزاب اللقاء المشترك، الذي أصبح شريكاً في السلطة منذ ديسمبر/ كانون الأول 2011. فقد وقفت بعض أحزاب "المشترك" إلى جانب الحوثيين، أو على الأقل غير داعمة لشريكها "الإصلاح"، أكبر أحزاب اللقاء المشترك بعد تفسير توسع الحوثيين المسلح على أنه صراع بينهم وبين "الإصلاح". وعزز ذلك وقوف الجيش موقف الحياد يومها. ووقعت صنعاء في قبضة الحوثي وعلي عبد الله صالح في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، وكانت إحدى الذرائع الرئيسية لهم المطالبة بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني - أبرز تلك المخرجات صيغة الدستور الاتحادي وآلية تقسيم وعدد الأقاليم الاتحادية التي رفضهما الحوثيون- وقاموا بخطف مدير مكتب هادي وأمين عام مؤتمر الحوار، أحمد بن مبارك، لمنعه من وضع مسودة الدستور للنقاش، ثم بوضع هادي تحت الإقامة الجبرية في يناير/ كانون الثاني 2015، حتى فراره إلى عدن، ثم تدخل التحالف عسكرياً لإعادته للسلطة، كهدف معلن على الأقل. خلال تلك التطورات، كان حزب المؤتمر الشعبي العام، أكبر الأحزاب اليمنية، قد تعرض للانشقاق بين رئيسه صالح وأمينه العام هادي، بعد أن كانت انشقت عنه قيادات بارزة لتنضم إلى أحزاب جديدة منذ 2011، مثل "التضامن الوطني" و"العدالة والبناء"، وهي المرة الأولى التي يشهد فيها الحزب الحاكم (سابقاً) مثل تلك الانشقاقات، بعد أن ساهم في تفريخ عدة أحزاب كالناصريين (3 أحزاب)، والبعث (حزبان)، واستقطب إلى عضويته عدداً من أبرز قيادات الحزب الاشتراكي بعد حرب صيف 1994، بمن فيهم رئيس الحكومة الحالي، أحمد عبيد بن دغر.
انقسام البرلمان والجيش
وبعد تدخل التحالف عسكرياً انقسم البرلمان بين هادي والحوثيين - صالح، وعقد الأعضاء الموالون لصالح عدة جلسات في صنعاء، بينما فشل هادي، حتى الآن، في عقد جلسات برلمانية في عدن للبرلمانيين الموالين لشرعيته، رغم مساعيه لذلك منذ أكثر من عام. لكن عدداً من أعضاء البرلمان كانوا أعلنوا تشكيل كتلة برلمانية جنوبية عقدت اجتماعاتها في عدن قبل انقسام البرلمان بالشكل الحالي. في الوقت ذاته، انقسمت معسكرات الجيش بين هادي والحوثي - صالح، وأصبح الجيش اليمني يحارب بعضه بعضاً. كما أن التحالف وهادي قاما بتأسيس تشكيلات مسلحة من خارج الجيش، تحولت إلى مقاومة محلية متعددة القيادات والولاءات. كما قاما بتجنيد آلاف العناصر في الجيش والأمن في الجنوب ومأرب وتعز وتهامة. وقام الحوثيون بتمكين اللجان الشعبية كجيش موازٍ لبقايا الجيش الرسمي الموالي لهم ولحليفهم صالح.
وفي الجنوب، قامت الإمارات منفردة بتدريب وتسليح وتمويل تشكيلات مختلفة على أساس مناطقي (النخبة الحضرمية، النخبة الشبوانية... إلخ)، وكونت أجهزة أمنية، مثل الحزام الأمني بعدن وغيرها، وهي تشكيلات تخضع لأوامرها المباشرة ولا تخضع للسلطات الشرعية، ولا تعد ضمن تشكيلات قوى الأمن والجيش الموالي لهادي. وتنفذ هذه التشكيلات سياسات الإمارات حتى ضد هادي نفسه، لدرجة منعها طائرته من الهبوط في مطار عدن قبل أشهر، ونشوب اشتباكات متعددة بينها وبين قوات موالية له، كألوية الحرس الرئاسي، مستغلة الصراعات التاريخية بين مراكز القوى في الجنوب وفقاً لأحداث يناير/ كانون الثاني 1986، إذ قامت بعمليات تجنيد من مناطق يافع والضالع وردفان، التي انتصرت في العام 1986 على أبين وشبوة اللتين يتحدر منهما عناصر ألوية الحماية الرئاسية الموالية لهادي، كونه من محافظة أبين. وقد استخدمت الإمارات والسعودية ألوية وكتائب عسكرية جنوبية للقتال ضد الحوثيين في مناطق شمالية، كالمخا والبقع وميدي، بما يعزز عمليات الثأر في المستقبل بين أبناء الشمال والجنوب، وذلك بعد طردها للشماليين من الجنوب ومنع دخولهم إليه مرة أخرى، وفرض كامل هيمنتها على أراضي الجنوب، بما فيها جزيرة سقطرى، ودعم كل من يقف ضد هادي، وضرب كل من يناصره، حتى من الجنوبيين أنفسهم، كعمليات الاعتقالات التي تعرضت لها قيادات حزب الإصلاح في عدن وحضرموت أخيراً من قبل عناصر موالية لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي"، المدعوم إماراتياً.
وفي إطار تفكيك منظمات المجتمع المدني، تم تفريخ كيانات جديدة توالي أحزاباً وجماعات سياسية. فبدلاً من نقابة واحدة للمعلمين، أصبحت هناك 3 نقابات ناشطة. ومنذ 2015 تم إشهار اتحاد الإعلاميين اليمنيين بصنعاء، ورابطة الصحافيين اليمنيين في الرياض، والمنظمة الوطنية للإعلاميين في مأرب لضرب نقابة الصحافيين الأم ذات الهيئة المنتخبة، وإشهار رابطة علماء اليمن، وقبلها هيئة علماء اليمن، على غرار جمعية علماء اليمن الأم. ولم يصمد في وجه التفريخ سوى اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين، أول كيان وحدوي بين شطري اليمن منذ 1971، لكن مقره في عدن تعرض للهجوم أخيراً من قبل قوات أمنية موالية للإمارات. بموازاة ذلك، أصبحت لليمن رئاستان وجيشان وحكومتان، ووكالتا أنباء رسمية، وقناتان رسميتان باسم اليمن. وتم شرخ البرلمان والبنك المركزي والنيابة العامة كسلطات سيادية. وأصبحت للجنوب مناسبات وطنية رسمية مختلفة عن المناسبات الرسمية الوطنية في الشمال، بشكل يجعل تقسيم اليمن إلى شطرين كما كان عليه قبل مايو/ أيار 1990 أقل المخاطر المحتملة، مع ظهور الأطماع والثارات المناطقية والطائفية الكفيلة بتفكيك البلد إلى كيانات متعددة، قد تكون بعدد الأقاليم المقترحة - محل الجدل والسبب المباشر للحرب الجارية - ولو بحدود وصيغ مختلفة. وفي كل الأحوال لا تبدو كل هذه التطورات طبيعية، ولا يمكن أن تكون ضد رغبات التحالف والمجتمع الدولي رغم تأكيدهم المتكرر على التمسك بوحدة اليمن واستقراره.