محاولة للتفكير مع كاتب حيران!

17 مايو 2020
+ الخط -
أرسل لي صديق شاب يهوى الكتابة ويتمنى احترافها، ثلاث "سكرين شوتات" لتدوينات كتبها ثلاثة أشخاص مختلفين تعليقاً على سطور كنت قد كتبتها عن الممثل طلعت زكريا عقب وفاته، أحدها يعترض على ما اعتبره تهاوناً ثورياً من ناحيتي في حق المرحوم طلعت لأنني طلبت له من الله الرحمة والسماح، وثانيها يعترض على ما اعتبره انحطاطاً ثورياً يحتقر حرمة الميت بالإشارة إلى بعض مساوئه حتى وإن ذكر بعض محاسنه، وثالثها يعبر عن تقديره لما كتبته وتأثره الشديد به.

ولأن صديقي مهتم بحرفية الكتابة وراغب في تطوير نفسه فيها، فقد سألني عما إذا كان السبب في تناقض هذه الآراء يرتبط بمشكلة في طريقة كتابتي، أم أنها مشكلة في توقيت الكتابة نفسه؟ فقلت له إن أي كتابة في العالم تقدم موقفاً واضحاً في قضية خلافية وتنأى عن سكة الإمساك بالعصا من المنتصف، ستنتج عنها حتماً آراء متعارضة كالتي رآها، أياً كان الموضوع الذي تتحدث فيه، وأياً كانت براعة كاتبها، وفي أي توقيت كان، فما بالك حين تُنشر تلك السطور في لحظة استقطاب حادة كالتي نعيشها في بلادنا، حيث لا يقبل غالبية الناس منك أقل من أن تتفق معهم وحدهم بوضوح تام ودون لألأة أو محاولة لصياغة أفكار مركبة، لن تفوح منها رائحة الانحياز الصريح لرأي بعينه.

لذلك وبشكل عملي بحت، لو وضعت ككاتب ردود الأفعال المتخيلة في حسبانك وأنت تكتب، لن تكتب على الإطلاق شيئاً عليه القيمة، أو ستقرر اختيار الموضوعات غير الخلافية التي ترضي الغالبية العظمى من الناس خصوصاً لو خاطبت عواطفهم الدينية والوطنية وحدثتهم عن الحنين إلى الماضي الجميل، أو ستختار أن تكتب على هوى طائفة ما تقرر الانحياز لها، وتعتبر نفسك متحدثاً بلسانها إلى أن تعتمدك هي كذلك، وتقرر خسارة أي قارئ لا ينتمي إلى تلك الطائفة، وهو ما سيجعلك تفقد استقلاليتك ككاتب، وكل هذه الاختيارات مصائب وكوابيس لا أتمناها ككاتب، وسيواجهها في هذه الأيام كل من يكتب رأيه، في صحيفة أو بوست أو تغريدة، أو حتى يقوله في برنامج أو مكالمة.  

ما ساعدني على تجاوز هذه المحنة العصيبة ـ إذا كنت تعتبر الاستمرار في الكتابة تجاوزاً ـ هو أنني كنت محظوظاً خلال دراستي للصحافة في كلية الإعلام، حين درست نظريات التلقي التي تحلل طرق تلقي القراء للنص، وتأثر كل منهم في قراءته بخبراته وتجاربه وبيئته، فضلاً عن تأثره بمن نطلق عليهم (حراس البوابة) والذين يتحكمون بشكل أو بآخر في تدفق الآراء والمعلومات إليه، بمعنى أنك لو قرأت "بوستاً" قام بمشاركته أحد وهو يلعن في الكلام المكتوب في البوست أو في كاتب الكلام، سيكون استقبالك له مختلفاً لو قرأته دون أن يكون مصحوباً برأي مسبق، وطبعاً سيختلف رد فعلك من التعليق المكتوب على البوست ذات نفسه، طبقاً لموقفك من كاتب التعليق: هل تثق فيه بدرجة كبيرة؟ هل تتشكك في أحكامه؟ هل ستقرأ الكلام الذي لعنه من باب الفضول والتحدي؟ وحين تقرأ ذلك الكلام سيختلف تأُثير ما تقرأه عليك، حسب تكوينك وعاطفتك ومزاجك ونفسيتك، وهي عملية معقدة درسناها في سنة دراسية، فلا تتوقع أن أنجح في تلخيصها لك في سطور، ومع ذلك فقد كان من المهم أن أمر عليها مرور الكرام.

دراسة هذا الكلام على أهميتها، لم تكن مفيدة ومؤثرة مثل التطبيق العملي، الذي بدأ لحسن حظي حين توليت مسئولية بريد القراء في صحيفة (الدستور) عام 1995، وكانت تلك أهم تجربة صحفية بالنسبة لي، لأنها كشفت لي منذ البداية، أي بعد سنة من التخرج، أنه لا يوجد شيء اسمه كتابة واضحة للكل، أو كتابة تكسب رضا الكل، لأن أي نص تراه واضحاً ومحكماً وسهلاً، ستوجد له قراءات مختلفة وتأويلات متعددة، وإذا كان النص المقدس المعجز يتم استقباله بطرق مختلفة ويلقى تفسيرات مختلفة، فما بالك بالنص البشري مهما بلغت درجة براعته وإحكامه، ولذلك عليك أن تفهم أنك كلما ابتعدت عن المتفق عليه عند غالبية القراء في بلد ما، ودخلت إلى المناطق الشائكة التي تثير غيظهم وضيقهم، كلما ابتعدت أكثر عن نيل الرضا والقبول، وهو اختيار لا بد من إدراكه مسبقاً، لأن المفاجأة به لن تكون سارة، بالطبع هناك عوامل كثيرة ستحدد الحكم على دخولك إلى المناطق الشائكة والمثيرة للجدل، هل تفعل ذلك كاختيار أصيل راغب في التشكك والتفهم والنقد؟ أم كاختيار راغب في الزياط ولفت الانتباه وجرّ الشَكَل واستيفاء الشكل؟ وبالطبع هناك مزيج يحدث بين نوعي الاختيار طيلة الوقت، لأن النفس البشرية تظل معقدة ومركبة، مهما ادعى صاحبها البساطة الكاملة والبراءة التامة.

تعال نطبق هذا الكلام على حالة الكتابة عن الفنان طلعت زكريا بعد موته، يعني، أنت أمام شخص مختلف عليه، فلا بد من أن تحدد هل ستكون معه أم ضده؟ أم أنك لن تبالي بهذا التقسيم القاصر للمواقف وستكتب ما تتصور أنه له وما تظن أنه عليه، بالطبع إذا اخترت أن تكون معه فقط، فنتائج كتابتك ستكون متوقعة، وإذا اخترت أن تكون ضده فالنتائج أيضاً ستكون متوقعة، لكن إذا اخترت الاختيار الثالث فستثير كتابتك نفس النتائج التي أثارتها كتابتي، صحيح أنني أزعم طبقاً لما أتاحه لنا الفيس بوك من وسائل لقياس آراء المتلقين، أن الاختيار الثالث كان صائباً ولقى رد فعل أفضل مما تخيلت، لكنك لا يمكن أن تنسى أن الموضوع نفسه إشكالي، أعني موضوع الكتابة عن الموتى في ثقافتنا، يعني عليك ككاتب أن تحدد: هل أنت من مدرسة ذكر محاسنهم فقط، أم تجاهلهم تماماً أم ذكر محاسنهم ومساوئهم إن وجدت؟

عن نفسي، لست من أنصار مدرسة (اذكروا محاسن موتاكم فقط)، بل من أنصار مدرسة (اذكروا محاسنهم ومساوئهم وتحدثوا عنهم بشكل نقدي محترم، ولكن بصدق ومن غير افتعال ولا مبالغة)، وحين تفعل ذلك لن يعتبر أنصار مدرسة (محاسن موتاكم) أي كلام جميل لك عن الفقيد كافياً، لأن كلامك الناقد له سيمحو أثر كلامك الجميل عندهم، وسيعتبرون كلامك بأكمله مسيئاً له، ولو طبقت نظرية التلقي التي ترى أن القراءة يلازمها عملية ترجمة للنص ترتبط بالعاطفة الموجودة سلفاً تجاه الكاتب، سواء كانت سلبية أم إيجابية، يعني لو كنت تكره كاتباً تعود على الكتابة الهزلية، ستتعامل مع كتابته الهزلية مباشرة بوصفها سخفاً وثقل ظل، لو كنت تحبه ستعتبر كل ما يكتبه لطفاً وخفة ظل، وقس على ذلك، وبالتالي فإن كراهية شخصك يمكن بسهولة تحويرها لتبدو من القارئ الكاره بوصفها موضوعية تكره كتابتك لا شخصك، وربما لذلك أكنّ تقديراً خاصاً للناس الواضحين في كراهيتها للأشخاص، بدلاً من اللف والدوران والاختباء خلف مواقف كذابة ومراوغة تدعي التهذيب والاحترام.

طيب، هل يعني كل هذا التعقيد أن تقول لنفسك ككاتب: "لن أهتم بردود الأفعال على ما أكتبه أياً كانت، سأكتب لنفسي فقط"، في الحقيقة من يقول لك أنه يفعل هذا بنسبة مائة في المائة فهو غير دقيق، ولن أقول كذاب، وحتى لو فرضنا أن كاتباً تبنى هذا الموقف لفترة، فإن النتائج الكارثية التي سيراها حين يخوض المناطق الشائكة والتي تتراوح بين الـ "تكفير ـ تخوين ـ طعن بسكين في الرقبة ـ دعوى تفريق ـ حبس ـ اعتداء ـ حملات تطليع دين ووطنية"، ستدفعه إلى أن يهجر هذا الموقف ويتغير بشكل ما، شكل يختلف من كاتب إلى آخر، حسب شجاعته أو ظروفه أو درجة الأمان التي يحظى بها.

في الوقت نفسه، أنا من أنصار نظرية أن تكتب وأنت لا تفكر في أحد أو في أي ردود أفعال، لأنك لو فعلت ستخرج كتابتك صايصة أو مايصة أو ماسخة أو مريحة أو تصالحية، يعني يمكن أن تفكر في العواقب قبل الكتابة أو قبل النشر، لكن ليس أثناء الكتابة، ولذلك مثلاً كنت أعتبر الفيس بوك وتويتر مكاناً للكتابة دون تفكير، ثم أستخدم ما أنشره هناك كمادة أولية أقوم بتطويرها أو تعديلها، لكنني واجهت بسبب ذلك الكثير من المشاكل التي يمكن إدراجها تحت بند واحد هو "آفة مصادرة حق الكاتب في الخطأ"، فالغالبية لديهم افتراض أنك طالما قررت أن تكون كاتب رأي، فلا بد أن تكون محقاً على طول من وجهة نظرهم، ولو حصل وأخذت الموقف الخطأ بالنسبة لهم، ستكون عرضة للتربص والتحفيل، وهو ما يجعل كتاباً كثيرين أعرفهم يخافون من إبداء آرائهم في الأزمات المثارة والقضايا المطروحة، وإن فعلوا ذلك يكتبون آراءهم للأصدقاء فقط وأحياناً لأنفسهم فقط، وهم معذورون في ذلك، خصوصاً والأوضاع تزداد تردياً بعد إغلاق المجال العام بالضبّة والمفتاح، وتحول الفيس بوك وتويتر إلى ساحات معارك وحيدة يعوض فيها الناس هزائمهم بالاستئساد على غيرهم، ويبحثون عن انتصارات سهلة ومبهجة، تخفف عنهم وعثاء العيش في بلاد مخروسة.

لهذا الوضع نتائج خطيرة جداً، أخطرها أن الناس هي التي تجبر بعضا البعض على المزيد من التدجين، المزيد من التردد قبل الكتابة والنشر، المزيد من فرملة النفس حرصاً على أن يرضى عنك فريقك المفضل من الناس، ولكي لا تجلب على نفسك سخط الكارهين غير المتوقعين الذين يتربصون بك في كل مكان. طبعاً يكذب عليك من يقول إن هناك وسيلة للسيطرة على هذا الوضع أو تغييره، فأنت لا تستطيع تغيير العالم لكن تستطيع أن تكون صادقاً مع نفسك حين تسأل نفسك: ماذا تريد ككاتب؟ لماذا اخترت الكتابة؟ هل تريد الوصول لجمهور معين؟ أم تؤمن أن الكتابة هي التي ستوصل نفسها حيث تريد؟ ما الذي يفترض أن تهتم به أكثر؟ إرضاء أكبر عدد ممكن من الناس؟ أم إرضاء عقلك وضميرك؟ هل يجب أن تطيل التفكير في عواقب رأيك؟ أم أن عليك أن تهتم قبل كل شيء بإجادة ما تكتبه ليكون محكماً في تعبيره عن موقفك، حتى وإن كان موقفك نفسه متشككاً وحيراناً ومتردداً كما ينبغي أن يكون عليه الحال أصلاً في وقت عصيب مثل الذي نعيشه؟

في اعتقادي أن الاهتمام بالتفكير فيما تريد أن تكتبه ومحاولة إجادته كافية، لأن هذا ببساطة هو ما تمتلكه، ومن تجربتي أعتقد أن هذا الاختيار يحقق نتائج جيدة، وهو ما تتيحه لك "السوشيال ميديا"، حين تمكنك ـ في حدود الخوارزميات طبعاً ـ من معرفة من اهتم برأيك ولماذا أعجبه ولماذا لم يعجبه، فتطمئن على وصول رسالتك بشكل سليم، وتستقبل الآراء التي لم تصلها رسالتك بشكل عقلاني وتحاول وضعها في إطار صورة أكبر، لتعرف فيم أخطأت أو ربما فيم أصبت حين أثرت حفيظتها، صحيح أن مؤشرات الإعجاب أو الرفض على السوشيال ميديا ليست نهائية وتنطق عن الهوى، لكنها مهمة ومفيدة إن كنت تهتم بالتواصل مع قارئ مفترض، وستساعدك على تطوير أداءك، لكن سيظل من المهم أن لا تضع ذلك القارئ المفترض في تصورك مسبقاً وأنت تكتب، لكي لا تقع في فخ الكتابة حسب الطلب، في الوقت الذي تدعي فيه أنك كاتب مستقل، فقد سقط كتاب كثيرون في فخ إرضاء القارئ المتخيل، وكانت نتيجة ذلك كارثية، مثل نتيجة السقوط في فخ إرضاء السلطة، وبالمناسبة هناك فخ ثالث هو فخ إغضاب القارئ المتخيل، حيث تضع في ذهنك قارئاً كارهاً لك وتستمر في مناكفته وإغاظته بشكل ممتع، لكنه مدمر على المدى البعيد.

إذا كنت من عشاق "الزَتونة" التي تلخص الكلام، وهو ما أشك فيه، لأنك لم تكن ستصل إلى هذا الجزء من المقال، لكن على أية حال، إن كان لكل هذا الكلام الذي قرأته "زتونة ملخصة"، فلا أعتقد أن هناك "زتونة" أهم من عبارة محمود درويش الرائعة "قيل ما سأقول"، ومع ذلك يظل أمامك ككاتب فرصة أن تقول ما تريد قوله بشكل يجعله يبدو مختلفاً عما قيل من قبل، وسيكون من حظك وتوفيق الله لك، لو قمت بذلك بشكل ليس فيه افتعال ولا حذلقة، وهنا بالتحديد تكمن غواية الكتابة التي تجعلها مسببة لكل تلك الزيطة والزمبليطة التي تساعدنا على استمرار الحياة بأقل قدر ممكن من الملل وخيبة الأمل.

والله أعلم.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.