هناك في تونس من يُمنّي نفسه بسماع البيان رقم واحد، من دون إدراك للتحوّلات التي تمر بها عموم الجيوش في المنطقة. والذين هم على هذه الحال يحاولون الاستثمار في حجم المشاكل التي يتخبّط التونسيون فيها، من دون أن تتمكن الطبقة السياسية من معالجتها أو التخفيف من حدتها. وبناءً عليه يوهمون المواطنين بأن الحريات لن تؤدي إلا إلى التسيب والفوضى، وأن الجيش هو القادر وحده على ضبط الأمور وتسريع عجلة الإنتاج وإنجاز المشاريع في آجالها وتطبيق القانون على الجميع. وعلى الرغم من أن خطاباً من هذا القبيل يجد من يتفاعل معه، خصوصاً في الأوساط التي خسرت امتيازاتها السابقة قبل الثورة، إلا أن المروجين له يتحركون خارج السرب، وليس لهم أي تأثير على الواقع، وعلى المؤسسة العسكرية التي لا تزال متمسكة بالبقاء على الحياد الإيجابي، وترفض الانخراط في الشأن السياسي وأن تفتك بدور الأحزاب. فالعسكريون يتابعون ما يجري في البلاد بكل تفاصيله، وهو ما جعلهم يمتلكون وعياً سياسياً غير مسبوق في تاريخ المؤسسة العسكرية التونسية منذ الاستقلال وانتصار الحبيب بورقيبة على الجناح اليوسفي (صالح بن يوسف) داخل الحزب الدستوري وأيضا داخل الجيش الناشئ.
من جهة أخرى، يتابع العسكريون ما يحدث في المنطقة العربية، والذي يؤكد أهمية التقاليد العسكرية التونسية التي رسخت مبدأ بقاء المؤسسة على الحياد عن مؤسسات الدولة. فالجزائر، وهي البلد الحدودي الأقرب إلى تونس، تؤكد المأزق الذي تمخض عن تجربة طويلة لسيطرة الجيش على الدولة بكل تفاصيلها، وهو ما جعل الفصل بينهما يمثل تحدياً صعباً. وبالتالي تأتي التجربة الجزائرية لتؤكد أن الجيش عندما يتدخل ويحكم قد يساعد على معالجة بعض الملفات، لكنه سرعان ما يتوسع ويتحول إلى كيان مغلق، تتصارع داخله الأجنحة، وتخترقه مختلف اللوبيات. ويعتبر مثال السودان أكثر وضوحاً، لأن الجيش يواجه حالياً غضباً شعبياً متواصلاً، بعدما نجح الحراك في الإطاحة بعمر البشير. هذا الحراك الذي استفاد، مثلما حصل في الجزائر، من التناقض داخل النظام، وجعل العسكر يرفعون دعمهم عن البشير، ويحاولون افتكاك موقعه والسيطرة على الحكم والدولة. لكن المجلس العسكري الجديد بدأ يتراجع ويتفكك أمام رفض قوى الشارع، وهو يبحث حالياً عن تموضع جديد في ضوء ما يحدث من متغيرات.
ويُعتبر ما يجري في ليبيا، الجار الشرقي لتونس، أسوأ مثال. فما يحصل في هذا البلد من حرب أهلية متواصلة يكشف عن أن أي جيش في العالم لا يمكنه أن يكتسب القوة والمناعة إذا استسلم لأطراف خارجية تقوم بتسليحه وتحريضه على خصومه داخل بلده. فجيش من هذا القبيل لن يتمكن من حماية الشعب وضمان وحدة الدولة وتوفير المناخ الملائم لتحقيق التنمية والازدهار. وهكذا يتابع العسكريون في تونس مختلف التجارب العسكرية القائمة في المنطقة. وجميعها لن تغريهم وتجرهم إلى التخلي عن دورهم الأصلي، المتمثل في الذود عن الحدود ودعم استقلال البلد، وعدم الانشغال بالصراعات السياسية. مع ذلك، فإن هناك ظاهرة جديدة في تونس، إذ قرر ثمانية عسكريين سابقين، ينتمي معظمهم إلى رتب عالية، في النهاية "اقتحام الميدان السياسي" من خلال تأسيس حزب أطلقوا عليه اسم "هلموا لتونس"، وأكدوا أنه "حركة مدنية وسطية" تعمل على تأسيس "دولة القانون والمؤسسات". ودعوا المواطنين إلى القيام "بهبة شعبية مزلزلة للانضمام إلى حركتنا الخالية من الوعود الزائفة والخطب السياسوية الرنانة". ويؤكد أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب توفيق العياري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن حزبه ليس مقتصراً على العسكريين، وإنما أغلبية أعضائه حتى الآن مدنيون، وأن تجربتهم ستكون مختلفة عن بقية التجارب العربية.