محاولات مبعثرة في التنظير الغنائي (1)

22 اغسطس 2019
+ الخط -
التنظيرة الأولى: كان الفؤاد مرتاح فعلاً؟
من التيمات الشائعة في أغانينا العربية تيمة الحنين إلى أيام البلادة العاطفية والتياسة الشعورية، التي لم يكن فيها المحب قد ابتُلي باختبار مشاعر الحب، وكان خالي البال والأحمال، ثم تغير كل شيء حين عرف الحب واكتوى بناره.

كتب في تلك الفكرة الكثيرون من الشعراء من مختلف الأجيال، فأبدع بعضهم وهرتل بعضهم ونَحتَ بعضهم، لكن أكثرهم تطرفاً كان الشاعر عبد المنعم السباعي، والذي كتب لأم كلثوم أغنيتها الجميلة (أروح لمين) وكتب لمحمد قنديل رائعته (جميل وأسمر) وكتب لعبد الحليم رائعة (لايق عليك الخال)، وأنجب المخرج الجميل مدحت السباعي، وشارك في كتابة فيلم (إسماعيل ياسين في الجيش) وفيلم (سمارة) المأخوذ عن مسلسله الإذاعي، وكلها إنجازات تغفر له أنه كان من الضباط الأحرار، وأنه كتب لعبد الوهاب أغنيته الكوميدية من فرط حزنها (أنا والعذاب وهواك) والتي ضلت طريقها إلى فريد الأطرش.

كتب عبد المنعم السباعي في أغنية (يا سلام عليك) التي غنتها نجاة ولحنها رياض السنباطي قائلاً: ""كان الفؤاد مرتاح، لا دمع ولا أفراح، والفكر كان خالي، لا قُرب يتمناه ولا قلب يترجاه، ولا كنت على بالي"، ليصل بحالة تمجيد البلادة العاطفية إلى أقصى مدى، فالفؤاد لم يكن يعرف الحزن فقط، وإنما لم يكن يعرف الفرحة أيضاً، والفكر لم يكن يقل عنه بطالة، مما قد يدفع من يأخذون كلام الأغاني بجدية إلى أن يشكوا في القدرات العقلية لإنسان هذه الأغنية، فهل كان يظن أن الإنسان خُلق لكي يأكل ويشرب ويطرطر ويفسّي، دون دموع وأفراح وأمنيات وأحلام؟


حس عبد المنعم السباعي الدرامي الذي اكتسبه من عمله في الإذاعة والسينما، ربما جعله في نهاية الكوبليه يعطي إضاءة درامية عن حالة إنسان تلك الأغنية وخلفيته الفكرية، قائلاً: "وفات علينا الهوى، وبنظرة وفّقنا، أتاريه جمعنا سوا، عشان يفرّقنا"، ليكشف أن بطل أغنيته مصاب بالبارانويا أيضاً التي يمكن أن نجد آثارها في مئات الأغاني في تراثنا الغنائي، والتي تكثَّف اعتقاد الإنسان منا أن الكون منشغل به شخصياً أكثر من غيره.

لعل آخر ملمح درامي يرتبط بهذه الأغنية، أنها حين ظهرت إلى النور في منتصف الخمسينات، كان صناعها يتوقعون لها "تكسير الدنيا"، لكنها لم تحقق نجاحاً يناسب أسماء صناعها الكبار، لتسقط من الذاكرة سنين طويلة، قبل أن يحاول المعجبون بنجاة ورياض السنباطي والسباعي، نفخ الروح فيها بوصفها على اليوتيوب بأنها "من الدرر المنسية"، وكان من الأنسب لو تحروا الدقة ووصفوها بأنها من "المنسية" بس، لكن الزمن له قدرة عجيبة على الطبطبة.

التنظيرة الثانية: عن تذوق العينين!
ما قاله سيدنا أبو الطيب المتنبي عن "عجز القادرين على التمام" الذي لم ير في عيوب الناس عيباً مثله، ينطبق مثلاً على المجموعة الغنائية ـ أمقت كلمة ألبوم ـ التي أصدرها المطرب الجميل مدحت صالح في عام 2005، فاسترد مكانته لديّ بعد سنوات طويلة من التيه، حاول فيها أن يقلد تجارب غنائية ناجحة، لم يكن يشبهها ولم تكن تشبهه، لذلك لم ينُبه من ورائها إلا المزيد من التعثر واللخبطة، وهو ما دفعه لأن يدقق في اختيار كلمات وألحان مجموعته الغنائية (جاي على نفسك ليه)، التي جاءت مختلفة عما كان متاحاً وقتها في "أسواق" الغناء، ومختلفة عن مشوار مدحت صالح نفسه.

يومها، تحمست لستة أغنيات بديعة من أغاني المجموعة، وتصالحت مع السابعة، ووقفت في زوري الثامنة التي كانت الأكثر ركاكة من بين ما سمعته من كل ما غناه مدحت صالح في مشواره، ولم تشفع لها عندي موسيقاها اللطيفة. يبدأ مدحت صالح أغنيته بدخلة فجة تقول: "إيه الجمال ده.. إيه القمر ده.. عمري النهارده ابتدا"، وهي دخلة شهد تاريخ الأغنية ما هو أكثر منها بلاهة، لكن مدحت يضفي على بلاهتها طابعاً خاصاً حين يقول على الفور: "أنا حبيت والله العيون دي.. لو دي عينيك دوّقني من دي"، وهي عبارة تطرح العديد من الإشكاليات، سنبدأها بالتوقف عند إشكالية سؤال "لو دي عينيك؟"، لأنها تتناقض مع الحالة البصرية المفترضة للشاعر الذي شاهد جمال محبوبته القمر فقرر أن عمره بدأ بعد تلك المشاهدة، ومع ذلك يطرح سؤالاً مفعماً بالشك على محبوبته أو محبوبه، لأن جنس الحبيب جاء مجهّلاً، كما يحدث في العديد من الأغاني العابرة للجنس في تراثنا الغنائي، أذكر أنني حين طرحت تلك الإشكالية على أستاذي عمار الشريعي بوصفه الغواص الأعظم في بحر النغم، انفجر في الضحك وقال لي: "يظهر إنه مش شايف زي حالاتي"، لكنني التمست العذر لشاعر أغنية مدحت صالح تقديراً لحسن نيته ولخمة موقفه، وافترضت أنه متشكك في أصالة عيون من يحب، لأنه قد يكون ممن يلجئون إلى العدسات اللاصقة لانتحال لون مختلف لعينيه.

ومع ذلك فإن إشكالية التشكك في عيون الحبيب، أهون بكثير من إشكالية "دوّقني من دي" التي ترد في نفس الشطرة الشعرية، فالأغاني التي لا تحب عشق الروح الباقي، وتفضل عليه عشق الجسد الفاني، كان أقصى ما وصلت إليه من جرأة هو الدعوة لتذوق الشفايف، ولو من بعيد لبعيد، بكلمات من نوعية "لسه شفايفي شايلة سلامك" أو "أحلى كلام هو كلام الشفايف"، وهي كلمات برغم عبورها الآمن من بوابات الرقابة الصارمة، لم تسلم من هجوم المحافظين الذين ينقض وضوءهم ظل الكلب، لذلك لم تتكرر الدعوة إلى تذوق الشفاه في الأغاني ولو من بعيد لبعيد، وربما لذلك لجأ الشاعر إلى العينين ليطلب تذوقهما، من باب أن "ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه".

لكن شاعر أغنية مدحت صالح أوقع نفسه في إشكالية حين استخدم مفردة "دوّقني" بالتحديد، لأن العيون "مقوّرة" بطبعها، أي تسكن داخل تجويف لا يمكِّن الوصول لها، بنفس سهولة الوصول إلى الشفاه أو المناخير أو حلمة الأذن، وربما كان من الأسهل عليه أن يتذوق الرموش أو الجفون، وهما من أجزاء العين، لكن الإشارة إلى العين تقتضي دائماً تخيل باطن العين من مقلة وإنسان وبؤبؤ وقرنية وشبكية وما إلى ذلك، وهنا تتضح أهمية عنصر الخبرة التي يتفوق فيها شاعر مخضرم مثل حسين السيد حين قال: "بلاش تبوسني في عينيا.. أصل البوسة في العين تفرّق"، ولم يستخدم تعبير "بلاش تدوقني في عينيا"، لأن "الدوقة في العين" قد لا تفرق، لكنها تقرف قرفاً قد يؤدي إلى الفراق.

قلة الخبرة أيضاً جعلت شاعر مدحت صالح يختم شطرته قائلاً: "دوقني من دي"، بدلاً من "دوّقني من دول" لأنه كان يتحدث عن عيني المحب الاثنتين، وليس عن عين واحدة، إلا إذا كان لديه سبب يجعله يطلب تذوق عين واحدة، ربما لأن الأخرى كانت "معمّصة" أو لا يوجد بها ما يستحق التذوق، وإذا احتج الشاعر على فعلته برغبته في عدم كسر القافية، فقد كسر بما قاله رقبة الإحساس، خصوصاً حين وضع كلمة "من" التي تعاملت مع العينين بوصفهما حلة ملوخية أو سلطانية مهلبية، وهو معنى يمكن التسامح معه، لولا كلمة "دوّقني" بما يرافقها من معاني اللهط والشفط التي لا تستقيم معها الرومانسية في الغالب الأعمّ.

كان يمكن للشاعر لكي يتعلم، أن يتأمل مثلاً في تعبير "أنا ممكن أدّيك عينيّا" الذي تكسر كلمة "ممكن" صورته القاسية المرتبطة بعمليات نقل الأعضاء، فيجهد نفسه في التعبير بشكل أفضل عن رغبته في عكس انبهاره بعيني حبيبته، بدلاً من أن يطرح ذلك الانبهار بشكل متشكك في فتنة عينيها، لأن ذلك السؤال سيشككها في قدرته على رؤية بقية مفاتنها، فضلاً عن أن السؤال المتشكك يمكن أن يكون أكثر مناسبة لبقية مفاتنها التي تقبل النفخ والشد والرفع، وهي الأولى بالتذوق على أية حال.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.