محاولات تخريبية في التنمية الذاتية!

01 أكتوبر 2018
+ الخط -
المحاولة الأولى: عن الحياة ما بين الكر والفَر!
حين تعيش في واقع بائس، ينبغي أن يكون كل عاقل رفيقاً بك، لو حدث وارتكبت فعلاً بائسا، فكل درجات البؤس مسموح بها في حالة كهذه، ولكن مع ذلك، عليك ألا تسوق فيها، فلا تتردى لأكثر مراحل البؤس انحطاطاً، وهي المعروفة بمرحلة "هنحرركم غصبا عنكم" أو في قول آخر "ما تستاهلوش دم الشهيد"، والتي سيوصلك إليها عدم إدراكك أن أي حرب في الدنيا لا بد فيها من كر وفر، وأنه من الأشرف والأكرم لك أن تعتبر نفسك في مرحلة الفر الآن، عن أن تتصور نفسك أفضل من الناس جميعا، وتتخيل أنك يمكن أن تقرر مصيرهم بالنيابة عنهم، بينما سيكون من الأفضل لك وللناس وللدنيا كلها أن تفكر من الآن في مرحلة الكرّ، والتي ستأتي بنا أو بغيرنا، وربما كان أفضل ما تفعله أن تظل حياً لكي تلحق الكرّ من أوله حين يبدأ يوماً ما، ولعله من المهم هنا أن أذكرك بأن الفرّ لوحده من غير نية الكرّ عار، والكرّ من غير إدراك أهمية الفرّ عند اللزوم محض انتحار، ولأن يموت المرء وهو يحلم بالكرّ وينتظره مهما تأخر، خير له من أن يموت وهو يأتي بأفعال منفرة تدفع الناس لأن يفرّوا من حوله.

المحاولة الثانية: عن حق تقرير المصير المجهول
يبدو لوم الناس، كل الناس، مريحاً في فترة بائسة كهذه، ومع أنني لست من أنصار التسابق في مديح الشعب، الذي يتحدث الكل عنه وباسمه، دون أن يستطيع أحد تحديد ما يقصده بكلمة (الشعب) فعلاً، ومع ذلك فإنني لا أعتقد أن لوم الشعب سيكون حلاً ناجعاً لمشاكلك، لأنك مع الوقت ستدرك أو ستتذكر أن الناس في بلادنا غلابة، حالهم يبكي العين ويمزق القلب، على أقفيتهم يعيش الحرامية والدجالون والأفاقون، وعلى أمل تحقيق أحلامهم البسيطة المشروعة يُسلمون أنفسهم للقهر، ويصنعون الطغاة بمزاجهم، ويسكتون على قتل وقمع من يحلمون بإصلاح جاد لأحوالهم ويسعون لتحقيق كل أحلامهم، الناس في بلادنا ضحايا ومجرمون في حق أنفسهم، مساكين وظلمة لأحلامهم في نفس الوقت، مخدوعون بمزاجهم أحيانا وغصبا عنهم أحيانا، ولن ينجيهم من هذا المصير، إلا أن يجربوا بأنفسهم أن الإستقرار الذي يحلمون به لن يصنعه الظلم، ويدركوا أن من الغباء إعطاء القط مفتاح الكرّار في كل مرة، ويكتشفوا أن "اللي ما نعرفوش يمكن أن يكون أحسن من اللي ما نعرفش غيره"، لذلك أؤمن بأن من حق الناس تقرير مصيرها، حتى لو اختاروا ظالماً جهولاً، لكي يأتمنوه على مستقبل أولادهم، سيكون عليهم أن يتحملوا نتيجة اختيارهم، وحتى تبدو تلك النتيجة لهم جلية واضحة، لن أتعالى عليهم، لكني أيضا لن أنسحق أمامهم فأكتم آرائي نفاقاً لهم، لن أكره لهم الخير الذي يظنونه قادما من وراء سحق المعارضين، لكني لن أتخلى عن أحلامي من أجل ما يتصورونه تحقيقا لأحلامهم، لأن أحلامي في الحرية والعدالة والمساواة، ستظل وحتى يثبت العكس هي الطريق الوحيد لتحقيق أحلامهم، ولذلك عليّ أن أدفع ثمن المصير الذي قررت أن أختاره، وأستمر في الدفاع عن اعتقادي بفداحة المصير الذي اختاروه.


المحاولة الثالثة: في مديح الكراهية
في أيام عصيبة كهذه نحتاج كثيراً إلى الحق في إعلان الكراهية، فنحن قوم لا نشكو أبداً من نقص الكراهية، ومع ذلك فحتى الذين لا يفعلون شيئاً سوى كراهية الآخرين، يخجلون في إعلان كراهيتهم صراحة، تسمعهم دائما يقولون: "أنا لا أكره فلان لكن.."، قبل أن يتدفقوا في شرح أسباب كراهيتهم له وغضبهم منه، ولا تستطيع أن تلومهم، فقد نجحت مجتمعاتنا في تصوير الكراهية كأمر معيب لا ينبغي إعلانه حتى لو كنت لا تفعل شيئا غيره، مع أن الكراهية عاطفة إنسانية خلقنا بها وليس من الصحي كتمانها أو تبريرها، ولعل استغرابك الآن لوصفها بالعاطفة، يذكرني بتلك اللحظة التي قرأت فيها كتابا بعنوان مثير للإهتمام، هو: (الغضب، العاطفة التي أسيئ فهمها)، ستذكرك قراءته بأن الكراهية مثل الغضب والرضا والخوف والشجاعة والحزن والبهجة والحقد والحب والقناعة والطمع، كلها عواطف إنسانية بعضها حقير وبعضها جميل، لكن كلها موجودة بداخلنا حتى وإن أنكرنا بذلك، لأن وجودها جميعا بداخلنا هو ما يجعل منا "أناسا" ويميزنا عن الملائكة والشياطين.


في أيام كالتي نعيشها، يصبح كتمان الكراهية عبئاً ثقيلاً على نفوسنا المتعبة، يشرح الشاعر العظيم ييتس هذا المعنى في أبيات جميلة يقول فيها "درست الكراهية بدأب كبير.. تلك عاطفة تحت إمرتي.. نوعٌ من مكنسةٍ تطهر الحس.. من كل ما هو ليس عقلا ولا معنى"، وهو معنى يوجزه ويكثفه أكثر شاعرنا العظيم نجيب سرور في (لزوم ما لا يلزم) حين يقول "ليس يعرف كيف يعشق من ليس يعرف كيف يكره"، وهو ما طبقه نجيب سرور بشكل أقل انضباطا في "أمياته" الشهيرة حين قال لابنه كرمز للأجيال التي تلته "يا شهدي يابني.. هاوصيك وصيّة تشيلها جوه نني العين.. ولو سألوك عن أبوك.. قولهم مات مصري ابن مصري.. و".." أم اللي ماله عينين.. يا شهدي يابني.. اكره واكره واكره.. بس حب النيل.. وحب مصر اللي فيها مبدأ الدنيا.."، وقد لا تكون هنا مجبرا على أن تأخذ باقتراح نجيب سرور فتحب النيل وتحب مصر لأن فيها "مبدأ الدنيا"، فربما تحبها لأسباب أخرى، وربما تختار كراهيتها ولو إلى حين، أو دائماً، فأياً كانت أسبابك، ستظل حراً في اختيارك، لأن الحب ليس بالأمر، حتى وإن كان لوطنك.

يبقى أن ما يجمع نجيب سرور وييتس هنا فيه على تباعدهما، هو أن الكراهية عاطفة يتم توظيفها وتوجييها تجاه أشياء محددة، لكنها في غياب حب ما أو معنى ما تصبح الكراهية أمراً مذموماً يدمر النفس، لكنها إذا ارتبطت بوجود حب ما ومعنى ما، تصبح طاقة لتطهير النفس وأداة لإعلان موقف من وساخات الحياة ودناوات البشر.

المحاولة الرابعة: عن الجمع بين الاكتراث والطناش
أعلم أن مواقع التواصل الإجتماعي صارت مجال النشاط الآمن الوحيد الآن ـ أو حتى الآن ـ بعد مصادرة المجال العام وقتل السياسة وفشخ المنطق، لكن لا تدع حبك لها كوسيلة مضمونة لإعلان الكراهية دون أدنى عواقب، يجعلك تتصور أنها يمكن أن تكون ساحات لتحقيق انتصارات فعلية على من تكره، سواءاً كان فناناً أو مذيعة أو كاتباً أو رياضياً أو سياسياً أو ما أشبه من الشخصيات العامة التي تحتل مكانات وأمكنة ترى أنها لا تستحقها أبداً، وقد تكون محقاً في ذلك، لكن عليك ألا تتذكر ألا أحد يختفي من الوجود أو حتى يتأزم وجوده، حين تقوم بقتله معنويا على الإنترنت، كل ما في الأمر أنك حين تفعل ذلك تشعر براحة مبعثها تحقيقك لانتصار لحظي، وبعد أن يزول وتكتشف أن من تكرهه موجود، تسعى لقتله مجدداً بعدائية أكثر فتحس بانتصار ربما كان أطول لكنه لن يدوم.

ما سينهي أي شخص تكرهه، عوامل أبعد بكثير من رأيك فيها، على رأسها كم الأخطاء التي سيرتكبها هو ليُعجّل بنهايته، أو كم القرارات الصحيحة التي يفترض به اتخاذها للتطوير من نفسه والتحول من شخص موجود إلى شخص مؤثر، وفي كل الأحوال لن يفرق رأيك فيه معه إلا إذا كان يعرفك بشكل مباشر، وعندها أيضا سيكون ضيقه من رأيك أو فرحته به لحظياً، تماماً مثل شعورك بالإنتصار عليه بعد قتله افتراضياً.

هل يعني هذا أنني أدعوك للتوقف عن لعن سنسفيل من ترى أنه لا يستحق الوجود، لأن وجوده يعكر صفو وجودك، بالعكس، فحتى لو دعاك كل الناس لذلك، لن تتوقف عنه، لأنك باستمرار فعله، تتصور أنك تثبت وجودك، وفي النهاية هذا هو سر تعقيد الحياة، وجمالها أيضا: كثير منا يعرف نتائج الأشياء كما تعلمها من سابقيه، ومع ذلك لا يكف عن تكرارها، إما لأنه يتصور قدرته على صنع نهايات جديدة، أو لأنه يقدس شرف المحاولة على ذل الإستسلام، أو لأنه لا يجد شيئا آخر يفعله.

افعل ما شئت واكره من شئت واغضب ممن شئت، لكن المهم أن تضع كل ما سبق ذكره في اعتبارك إن استطعت، لأنه سيعفيك من أن تأخذ الأمور بشكل شخصي، فتحزق أكثر من اللازم وأنت تعبر عن رأيك، لدرجة تجعل سعيك لإلغاء وجود من تكرهه، يشغلك عن تحقيق وجودك الإنساني، ببساطة اجعل محاربة وجود من تكرههم نشاطاً ضمن نشاطاتك اليومية، كالأكل والشرب والطرطرة والقراءة والفرجة وركوب المواصلات والمسافدة إن استطعت إليها سبيلاً، لأن التعبير عن الكراهية لو تحول إلى نشاطك اليومي الوحيد أو الأبرز سيكون ذلك إعلاناً عن بؤسك، أكثر من كونه إعلاناً عن مقاومتك للبؤس المفروض عليك بفعل من تكرههم.

لا أريد أن يُفهم من كلامي هذا أن على كل من يتعرض للهجوم والنقد بكافة درجاته وصولا إلى الشتيمة، أن يعتبر ذلك مجرد محاولات لاغتيال وجوده، يجب أن يدافع عنها بشراسة أو يتجاهلها بتعالٍ أو يتأثر بها بشدة؟، بالطبع لا، فبصفتي شخصاً تعرض لكل هذا منذ سنين طويلة، دعني أطمئنك أن رأي الآخرين لا يقتلك، بقدر ما يقتلك غباؤك، وأن هجوم الناس عليك لن ينهيك مهما اشتدت ضراوته، بقدر ما سينهيك عنادك وعدم تغييرك لنفسك ومحاسبتك لها، لذلك لا تعط اهتماماً أكثر من اللازم لكل كلمة موجهة نحوك، فتتعامل معها على أنها تهديد لوجودك الإنساني، ولا تتجاهلها تماماً لتعيش في دور السحابة التي لا يضرها نباح الكلاب، فالسحابة إن وضعت نفسك مكانها، لا يضرها النباح لأن الله لم يخلق لها أذنين لكي تسمع ولا عقلاً لكي تتأمل وتفكر.

لن يكون سهلاً أن تجبر نفسك على التوقف عند ما تتلقاه من هجوم، لتتأمل فيه باحثاً عما يمكن أن يفيدك، وربما نظرت إلى صاحبه ففكرت قليلاً: هل ينقدك من موقع تحقق إنساني ما حتى لو كان بسيطاً، لتضع نفسك في مكانه وترى نفسك بزاوية رؤية جديدة قد تطور من أدائك، أم أنه يحب "المرازيّة في الكون"، أم أنه يظن أن التحقق هو تحول الإنسان إلى قاضٍ يطلق الأحكام على الآخرين، حاول أن تسيطر على انفعالاتك وأنت تتأمل ذلك، لأنك يمكن أن تجد شخصاً يستفزك وقد تحول إلى نموذج بشري تتأمله بإشفاق وأحيانا باهتمام، بل ويمكن مع الوقت أن تحبه وتستفيد منه.

باختصار، الحياة هشة وصعيبة، وأصعب ما فيها الجمع ما بين الإكتراث اللازم لتجويد النفس، والطناش الضروري لإكمال المسير، لكن المحاولة تستحق، شد حيلك.

المحاولة الخامسة: في أن (الحياة قصيرة)
لا أظن أنني مدين لشيئ فيما عشته حتى الآن من حياتي التي أرجو لها أن تكون طويلة ومثمرة، بقدر ما أنا مدين لعبارة (الحياة قصيرة) التي كان من حسن حظي أن قابلتها في وقت مبكر جدا من دراستي الجامعية، فآمنت بها ودأبت على تذكير نفسي بها على الدوام، فساعدتني كثيرا على ألا "أعطل" أكثر من اللازم، عقب كل مطب من مطبات الحياة، وألا أخاف من السعي وراء ما أظنه أفضل وأجمل وأجدع، وألا أندم إذا وقعت في أخطاء أو ارتكبت خطايا، لأن تذكير نفسي الدائم بقِصَر الحياة، كان يدفعها دائما لمواصلة الحركة وعدم البقاء أطول من اللازم في الوضع نادماً أو آسفاً أو متخاذلاً أو حزيناً أو مبتهجاً أو وهذا الأسوأ والأجمل أحيانا: "مأنتخاً".

أحمد الله لأنني اهتديت لاكتشاف هذا المعنى مبكراً، قبل أن أتعرض لتجربة فقد الأحباب، وقبل أن يصبح الموت في مصر شيئاً مجانياً مبذولاً، مع الإحتفاظ بقدرته على أن يكون مفاجئاً فاجعاً ومتوحشاً حين يريد، ولذلك أتمنى أن تتأمل معنى قصر الحياة دائما، فلا تعطِ شيئاً في الحياة أكثر مما يستحقه من وقت، لا الدهشة، ولا الغضب، ولا الصدمة، ولا الفزع، ولا البهجة، ولا المرارة، ولا النشوة، ولا الألم، فكل هذه المشاعر لا تستحق أن تقضي بصحبتها وقتا أطول من اللازم، أياً كان الدافع والمبرر، لسبب بسيط هو أن الحياة قصيرة.

بالتأكيد لن يجعل ذلك حياتك مضمونة السعادة، لكنه سيجعلها أفضل، لن يطيلها لكنه سيطيل استمتاعك بها واستفادتك منها، لن يؤمنك من غدرها، لكنه سيمنعك من أن تأمن لها، فيخفف وقع غدرها عليك ما أمكن، وهذا أقصى ما يمكن أن تحصل عليه في حياة لو كانت ستدوم لأحد، لدامت للأنبياء، ولو كان ينجو من نهاياتها الفاجعة أحد، لنجا خبراء التنمية الذاتية.

اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير
ـ نُشرت الصياغة الأولى لهذه المحاولات في سبتمبر 2014، وستنشر هذه الصياغة في كتاب (البهاريز) الذي يصدر قريباً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.