مجنونة

02 يوليو 2016
تبحث عن قوقعة (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -
لا أوراق في البيت. لن تكتب شيئاً إذاً. لا ورثة أصلاً. تجلب أحمر الشفاه وتحاول الكتابة عن ذكرى واحدة تختارها عشوائياً. لا أوراق. هذه قصّة قديمة لطفلة كانتها. ربّما تكتب عليها، لكنّ الذكرى لا تأتي. وهي لا تأتي. في غرفةٍ ما، قد يقول الجالس خلف المكتب، والذي يبدو دائماً أطول من الشخص الجالس أمامه، إنّها مصابة بالاكتئاب، غير ذلك "الاكتئاب" الذي يردّد الناس يومياً أنهم مصابون به.

ماذا يعني ذلك؟ هل تتملّكها أفكارٌ سوداوية؟ هل تفكّر في الانتحار؟ النعم هنا قد تورّطها في مرضٍ عادة ما لا يفهمه الناس. ربّما تكون المرة الأولى التي لا يعدّ فيها التعميم حكماً ظالماً. الأسهل عادة هو إسداء النصائح. والأصعب دائماً هو استيعاب الاكتئاب. المؤمنون ينصحون المكتئب بالتقرّب أكثر من الله وغير المؤمنين ينصحونه بتجاوز محنته. حقاً؟ ربّما، ينسى أن الأمر قد يكون بهذه البساطة. لم يرَ أشجاراً في الخارج، ولا وجوهاً مبتسمة.

في الغرفة، ستعرف أنها انضمّت إلى أولئك الذين يعانون من مرض عقلي. يبدو الأمر مخيفاً. تسمعُ جيّداً ما يمكن أن يقال. "تبدين طبيعيّة. تصرّفاتك ليست غريبة ولا تدعو إلى الشكّ. تعملين وتأكلين وتنامين وترقصين وتسعين..".

في نظرهم، كانت طبيعية. اليوم هي "مجنونة". جنون عشوائي مثل الاكتئاب العشوائي والقلق العشوائي. تستيقظ وتعجز عن النهوض من الفراش. لا شيء يمكن أن تفعله وهي مستيقظة. لا تقوى على قراءة صحيفة ولا رواية. صارت تحلم بجلب كلبٍ إلى منزلها علّها تُجبر على التنزّه.

"مجنونة"، وقد فقدت القدرة على التركيز، ولأنّها في كلّ مرة ترجع إلى النقطة عينها. لا تتقدّم ولا تتراجع. بين كلّ الألوان، ترى هذه النقطة السوداء تحوم حولها وتختارها.

في الغرفة، يطلب منها اختيار ذكرى قديمة. في المبنى الذي كانت تقطنه في طفولتها، لعبت كرة القدم مع جيرانها الصبيان. ونجحت، صدفة، في صدّ كرةٍ كانت تتّجه نحو المرمى. آلمتها معدتها حينها. لكن أحد أعضاء فريقها هنّأها. وما زالت تذكر إنجازها هذا حتى اليوم. وكانت تنتعل حذاء التزلج، وتطير من زاوية إلى أخرى. ومنذ امتلكت واحداً، أحبّت الرقص على الجليد.

لم يدوّن شيئاً. بدا له أنها ليست هي التي تتحدّث إليه. هذه فتاة أخرى لا تبحثُ عن قوقعة. لاحظت ارتباكه. لكنها أكملت. "إنجاز الكرة" كان مجرّد خدعة. فقد بكت بسبب ألمها طويلاً من دون أن تخبر أحداً. بكت لأنها لم تتجرّأ على البكاء في مدخل المبنى، وقد كذبت على نفسها...

لا أوراق في البيت. تكفيها وسادتها. لكنْ خارجه، أفواهٌ كثيرة.

المساهمون