تقدّم النقاش بشكل شكلي من دون أن تتفكك أي من العُقد السياسية القائمة، فلا مجلس النواب اجتمع وشرّع، ولا الحكومة اتفقت على آلية عمل مُنتجة. وهو واقع يطرح أسئلة عن إمكانية تأسيس مجلس الشيوخ أو تطبيق اللامركزية الإدارية التي يتناقش المُتحاورون بشأنها.
مجلس طائفي مقابل برلمان غير طائفي
يشرح المحامي المتدرج والباحث الحقوقي اللبناني، نجيب فرحات، دور مجلس الشيوخ كما نصّت عليه المادة 22 من الدستور اللبناني، وهو: "تمثيل العائلات الروحية (الطوائف) مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية". وهو ما كان يُفترض أن يتم في الانتخابات النيابية الأولى التي أعقبت إقرار اتفاق الطائف عام 1992 (كانت انتخابات وتعيينا). لكن "إبهام المادة وعدم وضوحها لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد القضايا التي تنطبق عليها صفة المصيرية وقضايا أخرى، جعلت هذا المجلس لا يبصر النور حتى يومنا هذا"، بحسب فرحات. ويشير الباحث في دراسة بعنوان "مجلس الشيوخ اللبناني" (2013) إلى أن "الاتفاق على تشكيل مجلس الشيوخ الذي يُمثل الطوائف أتى مقابل تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي". وهي مقايضة قبلتها الأحزاب غير الدينية التي شاركت في صياغة اتفاق الطائف، مقابل ما اعتبرته الإنجاز الأكبر في اعتماد قانون انتخابات نسبي يُفرز مجلس نواب غير طائفي. وزادت ضبابية تعريف "القضايا المصيرية" في نص الدستور من صعوبة تأسيس مجلس الشيوخ وتحديد صلاحياته. لكن بعض الاجتهادات الدستورية اعتبرت أن المواد الواردة في الفقرة 65 من الدستور هي نفسها "القضايا المصيرية" التي يجب أن يتناولها مجلس الشيوخ ضمن صلاحياته، وهي: "تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، قرارا الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة وطويلة المدى، تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، إعادة النظر في التقسيم الإداري، حلّ مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، إقالة الوزراء".
ويرى كثيرون أن الاتفاق على تأسيس مجلس للشيوخ بموجب دستور ما بعد اتفاق الطائف، تخلّله، ضمناً، توافق موازٍ على إسناد رئاسة هذا المجلس لشخصية من الطائفة الدرزية، على اعتبار أن هذه الطائفة لا تشغل منصباً سياسياً رسمياً "كبيراً"، على غرار الطوائف الإسلامية والمسيحية الأخرى.
الأحزاب السياسية غير مُتفقة
وفي مقابل ترحيب حزبي الثنائية الشيعية، حزب الله وحركة أمل، بإنشاء المجلس، تتفاوت مواقف الأحزاب السياسية الأخرى بين الموافقة المبدئية على ضرورة تطبيق اتفاق الطائف كاملاً، وبين رفض "الهروب إلى الأمام بدل معالجة المشاكل السياسية والحالية". ويشكّل الموقف الأخير لسان حال حزب القوات اللبنانية الذي قرر مقاطعة الحوار الوطني والحكومة معاً. ويقول عضو كتلة "القوات" النيابية، النائب أنطوان زهرا، لـ"العربي الجديد"، إن "المتحاورين يضعون العربة أمام الحصان عند مناقشة تأسيس مجلس الشيوخ". يرفض زهرا هذه الخطوة "في ظل وجود حزب مذهبي مُسلح يُقاتل في عدد من البلدان (حزب الله)، وفي ظل تغلغل الطائفية السياسية وعدم القيام بخطوات عملية لإلغائها قبل تأسيس مجلس الشيوخ كما ينص اتفاق الطائف".
أما تيار المستقبل فيرحب عضو كتلته النيابية، عاصم عراجي، بـ"تطبيق اتفاق الطائف بشكل كامل ومنه بند تأسيس مجلس الشيوخ اللبناني". ويضع عراجي في حديث لـ"العربي الجديد"، هذه الخطوة في إطار "محاولة تحريك الجمود السياسي في البلاد، والذي يفرضه حزب الله والتيار الوطني الحر بفعل مقاطعتهما لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وهو الهاجس الأول لدى تيار المستقبل".
وبعكس حزب الله الذي وصف ممثلوه على طاولة الحوار بحث الإصلاحات السياسية بـ"الخطوة التاريخية"، يبدو موقف حلفائه في تكتل "التغيير والإصلاح" (الذي يرأسه العماد ميشال عون) أقل حماسة لتأسيس مجلس الشيوخ. ويسأل عضو التكتل النائب ناجي غاريوس عن "إمكانية إنشاء مجلس حكم جديد في بلد مُفكك سياسياً وطائفياً"، مذكّراً بـ"الوضع غير السليم داخل الحكومة التي تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية، ويستطيع رئيسها أو وزير المال فيها إقرار ما يريدان من بنود". يؤكد غاريوس لـ"العربي الجديد" أن "طرح تأسيس المجلس كان يجب أن يتم في ظل وجود رئيس مُنتخب للجمهورية، كي لا يشعر المسيحيون أن لا كلمة لهم في لبنان".
تعليق وحيد من أحد نواب كتلة "اللقاء الديمقراطي" (يرأسها النائب وليد جنبلاط) حدد حجم النقاش الدائر حول مجلس الشيوخ بـ"بدعة لتمرير وقت الحوار الوطني بانتظار المعطيات الإقليمية التي ستحدد هوية رئيس الجمهورية المُقبل وشكل الانتخابات النيابية". ويقول هذا النائب لـ"العربي الجديد" إنه "حتى ذلك الوقت لا نواب في لبنان ليكون لدينا شيوخ".
وسبق لرئيس مجلس النواب اللبناني أن سعى لتشكيل "الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية" عام 2010، مؤكداً "أن الطائفية هي علة العلل" وأن "الخوف من تشكيل هذه الهيئة مفتعل ولا شيء يبرره إلا الحرص على المصالح الفئوية". وهو المسعى الذي قابله رفض سنّي ومسيحي لأسباب مُختلفة، تمحورت حول "فقدان التوازن الطائفي في الوظائف الرسمية، ورفض إقرار أي تعديلات جوهرية في شكل النظام اللبناني في ظل هيمنة سلاح حزب الله على الحياة العامة".
وقد أقر الدستور اللبناني الصادر عام 1926 إنشاء مجلس الشيوخ، قبل أن يتم إلغاؤه بموجب القانون الدستوري الصادر بعد عام واحد بإيعاز من سلطات الانتداب الفرنسي. كان مجلس الشيوخ القديم قبل إلغائه يتألف من 16 عضواً مُوزعين بحسب الانتماء الطائفي (5 موارنة، 3 سنّة، 3 شيعة، 2 أرثوذكس، 1 كاثوليك، 1 درزي، و1 أقليات). تقاسم مجلس الشيوخ المهام نفسها مع مجلس النواب كالتشريع العام، التشريع المالي، منح الثقة للحكومات، وانتخاب رئيس الجمهورية.