تزامن إصدار الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، قراراً جمهورياً بتشكيل مجلس أعلى للاستثمار برئاسته، مع موافقة حكومته على مشروع قانون جديد للاستثمار، يلغي العديد من الأحكام التي تضمنتها التعديلات التي صدرت قبيل مؤتمر دعم اقتصاد مصر الذي أقيم في شرم الشيخ في مارس/آذار 2015. وقد أثبتت تلك التعديلات فشلها وعدم جدواها بالنسبة للمستثمرين، إذ مر نحو عام ونصف العام بعد ذلك المؤتمر الذي علق السيسي عليه آمالاً عريضة لجذب الاستثمارات، من دون تسجيل مؤشرات على إنعاش الاقتصاد المأزوم.
اللافت أن تشكيل المجلس الأعلى الجديد للاستثمار يتناقض في جزء منه مع ما ينص عليه مشروع القانون الجديد، الأمر الذي يعكس فشل الدوائر الرسمية المصرية في الحد الأدنى من التنسيق. كما يعكس وجود صراع على إدارة قطاع الاستثمار بين الأجهزة العسكرية والأمنية المسماة بـ"السيادية" وبين الأجهزة الحكومية البيروقراطية ممثلة بوزارة الاستثمار وهيئة الاستثمار وقطاعاتها المختلفة.
يقول مصدر حكومي مطلع شارك في اجتماعات إعداد مشروع قانون الاستثمار إن "السيسي فرض إضافة وزيري الدفاع والداخلية لتشكيل المجلس المذكور في القانون، ثم فاجأنا بضم رئيسي الاستخبارات والرقابة الإدارية". واعتبر أن هذه "رسالة سلبية للمستثمرين، على عكس ما يعتقد السيسي أنها رسالة طمأنة، لأن المستثمرين الأجانب وبصفة خاصة العرب لا يفضلون التعاون مع العقليات العسكرية والاستخباراتية المصرية قياساً بخبراتهم السابقة معها". وأوضح أن لمؤسسات الجيش والشرطة والاستخبارات "بيزنس خاص بها" على عكس الأجهزة الحكومية العادية، "وبالتالي تتولد حساسيات بين المستثمرين وبين هؤلاء"، وفق قوله.
ويشرح المصدر الحكومي نقطة الخلاف: "إن العديد من المستثمرين قدموا شكاوى على مدار خمسة عشر عاماً الماضية تكشف اصطدامهم برغبة الجيش أو الاستخبارات في مشاركتهم أعمالهم، أو فرض شروط مجحفة عليهم ليتمتعوا بمصالحهم منفردين". ويتابع: "إن ذلك كله يحصل بعيداً عن عيون الجهات المختصة بالرقابة على الاستثمار بالحكومة، لا سيما في مجال استثمارات الأراضي الصحراوية والزراعية والساحلية التي تمثل نحو 50 بالمائة من عقود الاستثمار في مصر، ويضعها مشروع القانون الجديد على رأس أولوياته". بحسب المصدر. ويشير إلى أن "العديد من المشاريع الاستثمارية لم تبصر النور بسبب تعنت الجيش في التخلي عن الأراضي المخصصة له في زمن الحرب لصالح المستثمرين، أو تمسكه بأن يدخل شريكاً فيها، الأمر الذي كان محل خلاف كبير داخل حكومة أحمد نظيف، أواخر عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك". ويؤكد في هذا السياق أن "وزير الدفاع آنذاك، المشير حسين طنطاوي، كان يقف حجر عثرة أمام تخلي الجيش عن أراض لم تخصص له رسمياً، لكنه وضعها تحت تصرفه في زمن الحرب، وذلك بحجة أهميتها الاستراتيجية". ويضيف أن الجيش باع في مرحلة لاحقة "بعض تلك الأراضي لحسابه أو استغلها بذاته في مشاريع استثمارية أخرى، مما أهدر المليارات على الدولة"، وفق المصدر الحكومي.
ويرى المصدر، أن تكريس السيسي هذا الوضع في تشكيل المجلس الأعلى للاستثمار، بل وضم هيئة الرقابة الإدارية والاستخبارات العامة "أمر بالغ الخطورة ويعرقل الجهود الحكومية لجذب الاستثمارات في مجال الأراضي تحديداً، وأنه كان من الأفضل عدم استباق صدور القانون بهذا الشكل، والالتزام برؤية المتخصصين بتشكيل المجلس الأعلى من موظفين حكوميين فقط".
ويعتبر المصدر أن مبرر السيسي في هذا الصدد ليس وجيهاً، لأن تدخله لحل المشاكل لا يتطلب بالضرورة أن يترأس المجلس الأعلى للاستثمار، لا سيما أن إدارة هذا الملف بشكل سياسي يثير قلق المستثمرين، خصوصاً الأوروبيين. ويرجح أن يكون هذا الأمر "جزءاً من شخصية السيسي غير الواثقة في أي من مرؤوسيه، كما أنه يتخيل أنه ملم وخبير في كل شيء، ويستطيع إدارة أي ملف بمفرده"، مشيراً إلى أن "سمات الاستئثار هذه لم تكن موجودة لدى الرؤساء السابقين الذين كانوا يؤمنون بدرجات متفاوتة بمبدأ التخصص، فلا يقضون كل أوقاتهم في نقاشات فنية مع الوزراء والمسؤولين الحكوميين كما يفعل السيسي".
رقابة كاملة
وفي المقابل، يرى مصدر في إدارة التشريع بوزارة العدل أن رئاسة السيسي للمجلس الأعلى وضمه وزيري الدفاع والداخلية ورئيسي الاستخبارات والرقابة الإدارية "يستهدف الرقابة الكاملة على إجراءات تخصيص الأراضي للمستثمرين، لا سيما في المناطق التنموية والمناطق العمرانية الجديدة التي تشمل أماكن حساسة استراتيجياً ويجب أخذ رأي الجيش والشرطة والاستخبارات بشأنها".
وينص مشروع قانون الاستثمار الجديد على أن تكون مناطق سيناء والوادي الجديد ومطروح، وجميع مناطق الصعيد، مصنفة باعتبارها "مناطق تنموية"، يحصل فيها المستثمر على حوافز استثمار ومزايا إضافية وهي: تخصيص الأرض بالمجان؛ الإعفاء من الضرائب لمدة 10 سنوات؛ الإعفاء من نصف تكلفة الطاقة؛ تحمّل الدولة بدلاً من المستثمر نفقات التأمين على العمال بالمشروع لمدة 10 سنوات. كما ينص على أن يتمتع المستثمر بمزايا إضافية في المناطق العمرانية الجديدة الداخلة في حيز استخدامات وزارة الإسكان وهي: الإعفاء من نصف قيمة ضرائب الدخل والأرباح المفروضة على المشروع الاستثماري والعاملين به لمدة 5 سنوات؛ الإعفاء من ضريبة الدمغة بجميع أنواعها ومن رسوم التوثيق والشهر الخاصة بعقود تأسيس الشركات والمنشآت وعقود القرض والرهن المرتبطة بأعمالها وذلك لمدة خمس سنوات من تاريخ قيدها في السجل التجاري؛ إعفاء تسجيل أو توثيق عقود الأراضي اللازمة لإقامة المشاريع الاستثمارية من الضريبة والرسوم.
ويرى المصدر في وزارة العدل أن انضمام وزير العدل ورئيس الرقابة الإدارية تحديداً إلى المجلس الأعلى للاستثمار يرتبط بمراقبة آليات تنفيذ هذه المزايا، وضمان عدم التلاعب للحصول عليها بالمخالفة للقانون. إلا أن المصدر الحكومي المختص بالاستثمار يعارض بشدة تبريرات مصدر وزارة العدل، مؤكداً أن "الموافقة على تخصيص الأراضي في المناطق التنموية يجب أن تحصل على تراخيص من الجيش والاستخبارات من دون الحاجة لضم الجهات السيادية للمجلس الأعلى للاستثمار، فجميع الأراضي في المناطق التنموية تحت يد الجيش المصري فعلياً، وهو يمتلك منها ما يشاء عدا ما تم تخصيصه في الثمانينيات من القرن الماضي لهيئات المجتمعات العمرانية والإعمار والتنمية السياحية والتنمية الصناعية". ويوضح المصدر الحكومي أن "الدور المنوط بالمجلس الأعلى الذي يضم الجهات السيادية يمس بنية الاستثمار في مصر، ولا يقتصر فقط على مسألة ترخيص التخصيص". ويضيف أن "المجلس هو الذي يرسم الخطة الاستثمارية للدولة، ويحدد أولويات مشاريع الاستثمار المستهدفة بما يتفق مع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ونُظُم الاستثمار القائمة، وهو من يحدد العقارات المملوكة للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة الأخرى المعدة للاستثمار، ونظام وطريقة التصرف فيها".
وللجيش حضور نافذ في جهاز الخدمة الوطنية والهيئة العربية للتصنيع في جميع هذه المجالات. كما تمتلك الاستخبارات شركات للنقل النهري ومشاريع لإنتاج الأغذية بالإضافة لمشاريعها الإسكانية. وهما ينافسان في السوق المحلية بقصد تحقيق الربح، فيما تملك الشرطة جهازاً مستقلاً لمشاريع محصورة بمجالات أقل أهمية من تلك التي يعمل فيها الجيش. ويركز جهاز الشرطة بصورة أكبر على القطاع الترفيهي والإسكاني.
وبانضمام هذه الجهات إلى المجلس الأعلى للاستثمار الذي يملك سلطات واسعة، تتحول هذه الجهات إلى منافس وحكم في نفس الوقت بالنسبة للمستثمرين المصريين والأجانب، مما يخلق مشاكل جديدة في قطاع يلعب دوراً رئيسياً في أزمة الاقتصاد المصري.