مجتمع طبقي طائر

26 فبراير 2015
نضال شامخ / تونس
+ الخط -

يجلس المسافر الرضيع "مقمّطاً" بحزام الأمان، والمضيفات يتولين رعايته؛ وإطعامه، وسقايته مما لذّ وطاب. قلّما تحدث في هذه الأرحام الحديدية مشاكل وأعطال طارئة، وهي معتدلة الجو والمناخ، ولا مغامرات كثيرة في الرحلة، فهي تحدث فقط في الأفلام الأميركية.

في الطائرات الأميركية الهوليوودية يوجد إرهابيون، من العرب عادة. هوليوود دؤوبة على تشرير المسلم والعربي "الموظف" في أفلامها بمهنة خطف الطائرات والحسناوات الشقر. الشرّ الملصق بالمسلم أصلي، لكنه قد يكون تعبيراً عن الرغبة في خطف الزمن الذي خانه إذا قرأناه قراءة مختلفة عن قراءة الأميركي. منذ ساعة هارون الرشيد رحمه الله التي أهداها لشارلمان، فقدنا قيادة الزمن مع تلك الساعة.

يسمي المفكر عبد الوهاب المسيري هذه النزعة الحداثية والمتجلية في العناية براكب الطائرة "بالنزعة الرحْمية"، وهي تجتهد في توفير عالم بلا مشاكل، بلا أبعاد، خاصة لركاب الدرجة الأولى، فيُعامل المسافر كأنه جنين، أو طفل قد يتبوّل على نفسه كما فعل زميلي فاروق خوفاً عندما أقلعت ذات الريش الحديد وانتزعته من بين ذراعي أمه الأرض.

وتبدو النزعة الجنينية في طلب الإشباع الفوري وعدم المقدرة على الإرجاء، ولا مسافة بين المثير والاستجابة. النزعة الجنينية ضد النزعة الربانية والفرق بينهما هو الفرق بين الطبيعة والثقافة، وبين الطبيعي والإنساني كما يقول المسيري. النزعة الجنينية تعمل مع الجاذبية الأرضية والنزعة الربانية تعمل مع الجاذبية السماوية.

لكن الطفل فاروق سيكبر بعد أن تستقر الطائرة على سكّتها في الهواء، ويأكل وجبتي. ذهبت لأغسل يدي وعندما عدت وجدته قد التهم الوجبتين، وجبته ووجبتي! فنظرت إلى الرجل البطين مستنكراً: ألم تكن رضيعاً قبل قليل؟ كيف كبرت فجأة؟ أجاب بعفوية: ظننت أنك نزلت من الطائرة!

كبر فاروق بالوجبتين، ثم صار شاباً ووقع في غرام صبية أوروبية نائمة بجواره، على بعد مقعدين، وراح يتأملها وهي تنشر أشعة جمالها الوهّاج، وهو يكاد يأكلها بعينه ذات البراثن والأنياب، والنمش يهطل على وجهها من سماء خفية!

لا بد أنه وقع أسيراً في حبها، ولن ينجح معه أي فداء حتى نثخن في الأرض.. والأرض بعيدة؟ لكن متى ستفيق من النوم؟ وهل سيكفّ إشعاع جمالها عن السطوع أم سيزداد بضحكتها أو بسقوط تفاح الكلام من ثغرها النضيد بقوانين الجاذبية السماوية.. ستفيق أخيراً، بقدرة الله، وحركة دوران القمر حول الشمس، لكن لن يساقط نمش وجهها رطباً جنياً، ولن تعترف بالجيران الذين أوصى بهم الله.. لا جيرة في البلدان الأوروبية، بلاد الفردية الشديدة، المحصّنة.

مقعدان فقط بينها وبين فاروق، سيحاول فاروق بإنجليزيته الركيكة، إغواءها؛ لكن يبدو أنها محصّنة من الإغواء. ليس في فاروق جاذبية، ليس فيه سمرة عطيل، أو نبل الساموراي، أو ذكاء علاء الدين، أو شطارة علي بابا.. عيناه جاحظتان، ولعلهما جحظتا من شدة الحملقة والافتراس البصري.. ليس هذا فقط، بل إنها متضايقة على ما يظهر، وأحلامها تشغلها، فقد ضغطت على زرّ فجاءت المضيفة من غير مصباح سحري، ويبدو أنها اشتكت من شيء فتوجهت المضيفة تطلب من فاروق بلطف أن يكفّ عن تسديد سبطانتي عينيه على وجهها وعلى جسدها الذي يشرف على الغرق في النار!

لكنّ فاروق لا يرعوي؛ فيقول لي معلّلاً ازورارها عنه: القمر يبدو أنه في المحاق، يتمنعن وهنّ الراغبات. هذا عندنا يا سيد فاروق وليس في بلاد بقرها يُحلب على أنغام الموسيقى ولكلابها أطباء نفسيون متخرجون من أفضل الكليات الطبية، ولقططها حظائر يحلم أمثالي بالإقامة فيها!

لقد مضى ذلك العصر عندما كان الفرسان يواكبون الظعائن، ويحرسونها. في رحلات هذه الأيام الظعائن هي التي تحمي المسافر الفارس، الذي تقتصر فروسيته على مشاهدة الأفلام في الشاشة التي بجواره، إذا كان من مسافري الدرجة الأولى الكرام.

الطائرة مجتمع طبقي ناعم، فيه أولاد ست وأولاد جارية، لكنه مجتمع طبقي رؤوم، حنون. لا يستدعي رجلاً ناقماً مثل سبارتاكوس كي يقوم بثورة عبيد، ولا عنترة كي يقاتل من أجل ثغر عبلة المتبسم.

دلالات
المساهمون