مجتمع الترجمة

12 سبتمبر 2019
("بابل 2001"، سيلدو ميريليس، تصوير: دانيال ليال- أوليفاس)
+ الخط -

عرف العالَم، منذ القديم، حركات متنوّعة على صُعُد عديدة، وفي مجالات مختلفة، لعلّ أبرزها الهجرة التي لم تتوقّف بتاتاً، والتي بالإضافة إلى مآسيها التي لا نزال نُعاينها حدَّ اليوم، ممثَّلةً في غرقى البحر الأبيض المتوسّط، أو في المحتجَزين من أطفال ونساء على الحدود الأميركية المكسيكية، أو غيرها، فالأكيد أنّ كثيراً من البلدان تُحفِّز مواطنيها على مغادرتها بسبب من سياساتها الفاشلة، وأنَّ بلداناً أخرى تُشجِّع على الهجرة إليها، لحاجتها إلى وافدين يُعمِّرونها ويُكثرون سوادَها، لكن وفق معايير وشروط معيَّنة، يأتي التواصل بلغة بلد الهجرة في مقدِّمتها، ومن بينها كندا والولايات المتّحدة الأميركية.

ولا يخفى أنَّ أوروبا -من خلال الاتحاد الأوروبي - تُعتَبر مختبَراً نموذجيّاً لمجتمع التثاقف؛ فهي قارةٌ متعدِّدة ثقافياً ولسانيّاً (مثلما حال إسبانيا التي بها قوميات مختلفة لسانياً منها الكتالونيون، والجِلّيقيون، والباسكيون، والبَلَنْسِيُّون)، ثم إنها مقصد لآلاف المهاجرين سنوياً من شتى بلدان العالَم، اعتباراً للعلاقة الاستعمارية التي ربطت البلاد المستعمَرة بمستعمرِها الأوروبي. وتعمد هذه الدول الأوروبية إلى توفير بلديّاتها مراكز لإيوائهم ومترجِمين للتواصل معهم، ولتعليمهم وتسهيل اندماجهم، فتشكل بذلك أحد أمثلة مجتمع الترجمة.

حتَّمت العلاقاتُ الاقتصادية والتجارية بين دُول أوروبا الرهانَ على الترجمة للترويج لمنتَجات بلدانها داخل الاتحاد أساساً، ثم في الخارج لاحقاً، بالموازاة مع التفكير في المصالح السياسية التي تربطُها ببلدان العالَم وتجمُّعاته الاقتصادية. وفي هذا السياق يُمكننا أيضاً أن نفهم تلك العبارة السائرة للسيميائي الإيطالي أمبِرتو إيكو، الذي ذهب إلى أنَّ "لغة أوروبا المشترَكة هي الترجمة"، لأنَّها تخطَّت العائق اللساني، وشكّلت مجتمعاً موحَّد الأهداف والمصالح والمواقف.

وتعيش الحالةَ نفسَها بلدانُ الخليج العربي، التي تشهد هجرةً ضخمة للعمالة الآسيوية، والتي غالباً ما يُتواصَل فيها مع الوافدين من غير العرب بواسطة الإنكليزية، أي عبر لغة وسيطة، طالما أنّ المتحدِّثين يُفكِّرون بلغتهم الأصلية، ثم يحوِّلون مضمون الرسالة ذهنيّاً إلى اللغة الوسيطة، وهي عملية ترجمية في أساسها، فهو مجتمع ترجمة، لكنه لم يرتق بعد إلى مستوى الاتحاد الأوروبي لغياب شروط موضوعية.

والأكيد أنّ الترجمة قدرٌ لا مهرب منه، حسب الناقد الأميركي بول أنجل الذي يرى أنَّ "ما يجب أن تكون الجملة الحاسمة بالنسبة إلى السنوات الباقية من حياتنا على الأرض هي: الترجمة أو الموت. إن أسباب الحياة بالنسبة إلى كل مخلوق على ظهر الأرض ربما تعتمد يوماً ما على الترجمة الفورية والدقيقة لكلمة واحدة".

ومعلوم أنّه في غياب لغة بابل الأولى، التي وحَّدت بين بشر المدينة الأسطورية قبل الشتات، فإنّ الحلم الإنساني بالتواصل لم تخمد جذوته، وقد تمثَّل أواخرَ القرن التاسع عشر في الإسْپِرَانْتُو؛ تلك اللغة الحيادية البسيطة التي ابتُكِرتْ لتوحِّد بين سكان الأرض شفهيّاً وكتابياً، بصفتها بديلاً يضمن تعلُّم المعارفِ ويُحقِّق التواصل بين المجتمعات، لتجاوز المشاكل التي تطرحُها هيمنة لغات "الدول العُظمى".

وبوسعنا اليوم النظرُ إلى الإسپرانتو بصفته اللغة التي تستاق مادَّتها من لغات مُتعدِّدة، وتستعملُها في الحياة اليومية من أسفار، واجتماعات دولية، وشبكات التواصل الاجتماعي، والتجارة، وغيرها، والتي هي جُماع مصطلحات ومفاهيم وجُمل توحّد العبارة فتكون في وجه من أوجهها تحقُّقاً لمجتمع الترجمة.

لكنَّ الترجمةَ، وخلافاً لـ الإسپرانتو، تركّز على وصل ثقافتيْن لا غير، وتنهض بدَوريْن؛ فهي، من جهة، تجتهد في إدخال الغريب، دون التخلّي عن القيام بدور الغِربال اللغوي الذي يُنخّل الوافِد اللساني، ومن جهة ثانية، تُوقِفُ الاجتياحَ اللغويَّ الأجنبي للغة الوصول، أو تُلطِّفه على الأقل بتكييفه مع الثقافة المُضيفة. وبذلك تُبرز مهمّتَها الاجتماعية على المستوى اللساني، ناهيك عن مهمّتها التثقيفية والأخلاقية والمعرفية والفنية.

وبخصوص الفنون، مثل الفن التشكيلي والموسيقى والرقص، فإنها تكتفي بذاتها، ولا تحتاج إلى وساطة من أيّ نوع كي تُوصِلَ خطابَها إلى الجمهور، ولكي تتّصل به وتتواصل معه، ليس في المجال الثقافي الذي أُبْدِعت فيه فحسب، وإنما إلى الإنسان في العالَم بأسره، لامتلاكها لغتَها الفنية المُشْترَكة عالَميّاً بين مختلف الثقافات.

أمّا الأدبُ، بصفته أحد الفنون الرفيعة، الذي يَستعمل أهمَّ ابتكار عرفته البشرية، أعني اللغةَ التي قبض بها الإنسانُ على العالَم بتسمية الأشياء والتعبير عن الأفكار والمشاعر والتخيُّل وللتواصل فيما بين أفراده ومجتمعاته، والذي له جمهوره الخاص من القُرّاء أيضاً، فإنَّ مُبدِعيه لا يدّخرون جَهداً لكي تصل أعمالُهم إلى أكبر عدد من القُرّاء، لذلك يصْعُب، في العصر الحديث على الأقلّ، ألّا تجد كاتباً أو شاعراً لا يُفكِّر أثناء الكتابة في قارئه في لغته الأصلية، ولا يفكّر في الوقت ذاته في قارئه الأجنبي في لغةٍ يُترجَمُ إليها.

ولا يخفى أنّ الأدب أسهم منذ القِدم في بناء مجتمع الترجمة، بل إنه كان التجلّي الساطع لها، فالحكايات والسِّيَر الشعبية الشفهية المشتَركة بين الثقافات، والتي كان يرويها الحكواتيون والحِلَقيّون والجَدَّات وسواهم هي أدب شعبي شفهي، تُرْجِم شعبيّاً وكُيِّف محلِّياً، وأُذيع في الناس عبر قنوات مختلفة، وهي التجلّي الساطع على أنَّ المجتمع البشري مجتمع ترجمة بامتياز.

وحريٌّ التذكير بأن الأدب بمعناه الحديث رسَّخ هو الآخر مجتمع الترجمة، وطوَّر ذاته في حضنها، وتكثر في هذا الباب الأمثلة، ونكتفي عربيّاً باستحضار "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" اللتيْن تُرجِمتا إلى العربية، ثم تحوَّلتا إلى أدب عالمي، يستهلكُه قُرَّاء كوكبنا، الذين يُمثِّلون مجتمع ترجمة بامتياز.

المساهمون