مجتمعاتٌ عربيّةٌ سحقها الأغبياء

29 سبتمبر 2014

تربّت أجيال القرن العشرين تربويات خاطئة وملتبسة ومزيفة (Getty)

+ الخط -

لم يكن العرب القدماء أغبياء سياسيّاً، عندما نقرأ تاريخهم، سواء أحسنوا في صنع سياساتهم أو فشلوا، فقد كانوا يفكرون طويلاً، بل ولهم مواريث سياسية طويلة، توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، واستطاعوا الاستفادة منها. وكانوا لم يميّزوا، قديماً، في تفكيرهم السياسي بين دين وآخر، أو ملة وأخرى، أو مذهب وآخر.

وقد علم الأذكياء كيف تكون المناورة، وكيف تبدأ اللعبة، وكيف تنتهي، وكيف يعالج أمر الخصم، وكيف تُبنى التحالفات، وكيف تنشأ الدول وتبنى المجتمعات وكيف تنجذب الجماهير، وكيف تستخدم الأساليب، أو تقدم الغايات أو يتم السعي إلى الأهداف، بل وكيف تقدر الأمور ويسفّه ضيق الأفق. كان للسياسة رجالها من دون إخضاعها للأهواء والكوتات والمذاهب والأديان والمعتقدات والشرائع والأمزجة والرغبات، فالسياسة لا تعرف هذا أو ذاك كله.
 
لقد نجح بعض القادة من السياسيين العرب في الصنعة السياسية العربية، إبان النصف الأول من القرن العشرين، إذ يدرك المؤرخ المعاصر قيمتهم من تجاربهم السياسية، وخصالهم المدنية، على الرغم من أخطائهم، وخصوصاً في قيادتهم السياسية وبغيتهم التحديث، وإذا راقبنا أبناء جيل سياسي عربي عاش مجايلاً له، بين الحربين العظميين، وجدنا قادة وساسة عرباً تميّزوا، وقت ذاك، بمقدراتٍ وطنيةٍ، لم يمتلكها لا جيل القادة الضباط الانقلابيين المهووسين، الذين تعاملوا مع السياسة من أجل السلطة، ومع الجماهير، وكأنهم في ثكنة عسكرية، وخدعوا شعوبهم باسم الشعارات الثورية والشعبية والتحرير، بل وأنتجوا، في مرحلةٍ لاحقةٍ، ساسةً من الطغاة المستبدين الذين نكّلوا، ليس بالسياسة وصناعتها وممارستها وفنونها، بل بالمجتمعات التي حكموها بالحديد والنار، فهرب الناس إلى بدائلهم وبقاياهم، لينتجوا، اليوم، مع وفرة المال والسلاح والإعلام المنحرف، ساسة وقادة من البدائيين المتخلفين الذين يريدون تحويل الحياة إلى القرون الوسطى.

وتتبدّى لنا، اليوم، الآفاق المسدودة من جماعات وطوائف وكتل سياسية هائجة، لا تعرف كيف تفتح في الجدران المغلقة أي كوى للنفاذ وفرص الخلاص، ولا تدرك أية أساليب في فن الممكن، أو أية مصادر من أجل إعادة التوازن والحداثة، بعد انعدامهما،‮ ‬ولا كيف تعالج المشكلات العميقة وإدارة الأزمات،‮ ولا تفهم ‬كيف السبيل إلى مواجهتها؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ فهي قوى غبية، اقتنصت الفرصة لتوغل في البدائية السياسية، مع توظيف نفسها لهذا أو ذاك من الأنظمة المتخلفة، من أجل السلطة وقوة المال والسلاح .
‬‬‬‬‬‬‬‬

‬لقد أنتجت الحياة السياسية العربية في نسخ الديكتاتورية البغيضة جملة من البنى المتخلفة والسيئة والمخربة، والتي تفتك، اليوم، في مجتمعاتنا، فتكاً ذريعاً ومريراً، باسم شعاراتٍ دينية ومذهبية طائفية وفتاوى عقدية، وقد أحبطت كل محاولات التغيير السياسي لصالح سطوتها البشعة، وآلياتها المتخلفة التي لا تؤمن، من خلالها، لا بالحداثة ولا بالتعددية ولا بالديمقراطية ولا بالرأي الآخر، علماً أن مجتمعاتنا دخلت القرن الحادي والعشرين، وهي لا تفهم معرفياً طبيعتها، ولا تدرك بنيوياتها ولا تراكيبها ولا عناصرها ولا كائناتها، على نحو من الفهم والإدراك العميق.

ولقد تربّت أجيال القرن العشرين تربويات خاطئة وملتبسة ومزيفة، بحيث لم تفهم من حقائق تاريخنا شيئاً، لكثرة ما صبغ به من مزيفاتٍ وأكاذيب، ولم تفهم جملة النقائض والثنائيات التي يعيشها التفكير العربي الراهن، إذ عاش عقوداً طويلة على عبادة البطل، وعلى أمجاد الماضي، وعلى التفاخر بالأمة، وعلى تأليه العنصر، وعلى روح القبيلة، وعلى التشبث بأحادية الأشياء، وعلى تأليه الرموز، وعلى ترديد أقاويل وشعارات فارغة من أي معنى ومضمون.

بل وتربت فئات عريضة من الشباب على الغلو والتشنج والتعصب والتطرف الذي لم يقتصر على فئات سياسية معينة، بل شملت مجتمعات عربية كبرى، وذهبت ضحية ذلك آلاف الأبرياء، ولم يجرؤ أحد من الساسة، أو المثقفين، أن يستدعي البدائل المتمدنة من أجل التغيير، لأنه سيكون ليس ضحية نظام سياسي معين، بل ضحية مجتمعٍ، كان ولم يزل، تجتاحه الأوبئة والأمراض التاريخية المزمنة.

كان‮ يفترض بالعقلاء العرب، قادةً ومفكرين وساسة وصناع قرار، تحرير السياسة من الثيوقراطية والتيولوجيا في آن،‮ ‬وبالتالي، تأسيس شيء من دنيوية السياسة. ‬في مناخ من الحرية،‮ ‬وإن حرية الفرد تفترض، أيضاً، نوعاً من احترام التجارب الماضية، لا الثورة ضدها، واحترامها، بدل تشويه قيمها وشتم زعمائها،‮ ‬أي تفترض نوعاً من قبول قانون الآخر، سواء جاء ذلك من القوميين أو اليساريين أو البعثيين أو عسكرتاريا الإنقلابيين، قبل أن يغزونا ‬توحش البدائيين باسم الشرع والدين. وأقول: من الممكن أن يكون المرء دينياً،‮ في تجربته مع نفسه، ولكن، ينبغي أن يتفاعل مع الحياة كمواطن مدني.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إن تفاقم مخاطر ما يجري في مجتمعاتنا وسوء التفكير السياسي لا يمكن معالجته بسذاجة، خصوصاً مع أفول الدولة هنا، وهشاشتها هناك، وانقسامات المجتمع هنا، وانغلاق التفكير هناك، واجتياح أوبئة التاريخ والانغماس السيكولوجي في التيولوجيا‮ في كل مكان. وما يجتاحنا من غلو وانقسامات واستعارة مزيفة لمفاهيم السياسة ‬من جهة أولى،‮ ‬وعليه، نتساءل: ما العمل من أجل ترسيخ مفاهيم العقل، من خلال زرع الفكر والنقد والتربويات الجديدة؟  وما الحالات التي نحن بصدد طرح أسئلتها وتفكيكها،‮ ‬في سياقٍ محدد،‮ ‬قابل للتحديد مع الأمثلة الدامغة؟  وكيف يتم إلقاء ‬السؤال التفكيكي على كل أبناء مجتمعاتنا، وخصوصاً في المطروح حول سيادة الدولة الأمة،‮ ‬والحياة السياسية الحقيقية، من خلال الفصل بين الثيوقراطي والسياسي؟ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أعتقد أن من الضروري التأمل في ما ارتكبه العرب، ساسة ومفكرين وكتاباً ومثقفين وساسة متحزبين، من خطايا وجنايات في زرع الأوهام والأيديولوجيات الكاذبة، والاعتراف بزيفهم في حمل شعارات الديمقراطية والتقدمية والاشتراكية، كذباً وبهتاناً، في واقع كان مهدداً من دواخله، ويحمل أزمته ومعضلاته، قبل زمن الاستعمار، ومحاربة القوى التي أسمت نفسها "الثورية" كل العقلاء والنبلاء من الساسة القدماء من ذوي النزعات المستنيرة المتمدنة.

وفسح المجال لصعود الغلاة والمتعصبين والرعاع والبدائيين لممارسة العمل السياسي، ومساهماتهم في غلق أبواب العقل في دواخل العالم العربي والإسلامي، باسم الدين‮ أو الطائفة أو المذهب. ولمّا لم يكونوا يبالون، أبداً، بما ستنتجه الأيام، دهشوا وصعقوا، فجأة، بمن يقطع الرؤوس ويرجم النسوة ويفتك بالحياة.