11 نوفمبر 2024
متى يتوقف الكذب على السوريين؟
في وقتٍ ما تزال العمليات العسكرية مستمرة على أكثر من جبهة في سورية ضد المدن والقرى والأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، ويسقط كل يوم عشرات الضحايا من المدنيين، في خرقٍ فاضح لاتفاقيات الهدنة العديدة التي وقعت برعاية روسية، تم جرّ المعارضة السورية العسكرية والسياسية، تحت ضغوطٍ دبلوماسية مكثفة دولية، إلى مفاوضاتٍ سياسيةٍ تفتقر لأدنى شروط النجاح. وكان من الطبيعي، في غياب أي التزاماتٍ بالتعهدات السابقة، وأي ضماناتٍ دولية واضحة، والتخبط في المرجعية القانونية والسياسية، والإملاءات الروسية، أن تتحوّل المفاوضات في أستانا وجنيف 4 إلى مناوراتٍ غرضها الرئيسي إضعاف موقف المعارضة وتثبيت مواقف النظام وحلفائه. ولذلك، بدل أن تعيد الأمل للسوريين بإمكانية التوصل إلى حلّ سياسي يلبي الحد الأدنى من تطلعاتهم، زادت هذه الجولة من المفاوضات العقيمة من إحباطهم، وعمّقت الشكوك في إمكانية أن تسفر أي مفاوضاتٍ مقبلةٍ في أستانا أو جنيف عن النتائج التي ينتظرها السوريون لوضع حد للحرب العدوانية والإعداد لسورية جديدة، يسودها السلام والإخاء والعدالة والديمقراطية، عبر عملية انتقال سياسي حقيقية. أبرزت هذه المفاوضات جملةً من الحقائق التي تهدّد بتقويض العملية السياسية برمتها، إن لم تكن قد فعلت بعد، أهمها:
أن الغاية من هذه المفاوضات لم تكن تلبية تطلعات السوريين، وضمان سيادتهم على أرضهم، واستعادة وحدتهم الوطنية، وضمان حقوقهم الأساسية، في الكرامة والحريّة وحكم العدالة والمساواة أمام القانون، وإنما تكريس المكاسب الإقليمية والعسكرية والسياسية التي حققتها أطراف التحالف المضاد للثورة ووكلاؤه الداخليون والخارجيون، ومن وراء ذلك تفاقم الصراع على تقاسم مناطق النفوذ في البلاد.
وأن نظام الأسد وحلفاءه لايزالون يصرّون على التنكر لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والتهرب من تطبيقها في الوقت الذي يسعون فيه إلى كسب الوقت، والاستمرار في تطبيق الحسم العسكري على الأرض.
ويشير جدول أعمال المفاوضات الذي تجاهل إجراءات الثقة التي لحظتها قرارات مجلس الأمن إلى حجم الاستهتار بحياة السوريين ومأساتهم، سواء ما تعلق منها بوقف القصف العشوائي أو
إطلاق سراح المعتقلين أو كسر حصار التجويع أو وقف التهجير القسري وعمليات التطهير الديمغرافي لأهداف استراتيجية في أكثر من موقع ومنطقة.
ومن اللافت للنظر الدور غير النزيه الذي تلعبه الأمم المتحدة، ممثلة بمبعوثها السيد ستيفان دي ميستورا الذي تحول من وسيط إلى مفاوض رديف عن الطرف الروسي وزبائنه في طهران ودمشق، فبدل أن يتمسك بجدول الأعمال الذي صاغه هو نفسه وكان في أساس الدعوة التي وجهت إلى الأطراف، خضع لضغوط، وقبل بنقل موضوع الاٍرهاب من جدول أعمال أستانا إلى جدول المفاوضات السياسية، في وقتٍ لا يكاد يكون هناك أي خلاف، لا سوري ولا دولي، حول معالجة ملف الإرهاب. والهدف من ذلك هو السعي إلى طمس مسألة الانتقال السياسي التي هي جوهر المفاوضات، كما كان قد أعلن هو نفسه عن ذلك من قبل، وتحويلها إلى مسألة من مسائل متعدّدة، وذلك لتحرير النظام والمحتمع الدولي من المسؤولية، ورمي الفشل المحتوم لها على جميع الأطراف بالتساوي. ويصب في السياق ذاته، وللهدف نفسه، وضع جميع نقاط جدول الأعمال على سويةٍ واحدةٍ من الأهمية، وإلغاء التسلسل الزمني لمناقشتها، وطرحها بالتوازي. وأخيرا، فرض منصتي موسكو والقاهرة على المعارضة كأطراف مستقلة من أجل تعزيز الضغوط على وفد الهيئة العليا، وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات، لصالح إعادة تأهيل النظام وحرمان السوريين من انتقال سياسي حقيقي.
لم يأت ضعف إنجازات جنيف 4 عن ضعف المعارضة أو التلاعب بأطرافها والضغط على الهيئة العليا لقبول ممثلين أقرب لموسكو وغيرها منهم لمطالب الشعب فحسب، وإنما لعوامل كثيرة، من أهمها تخبط الإدارة الأميركية الجديدة وعجزها، حتى الآن، عن بلورة رؤية واضحة في تناول ملف الشرق الأوسط عموما، والملف السوري خصوصا، وهو ما يترك جميع الأطراف الأخرى في حالة ترقبٍ وانتظار. ومنها استمرار رهان طهران والأسد على حرب استنزاف الفصائل المقاتلة المعارضة، بعد أن فقدت المبادرة في أكثر من موقع، وفي ما وراء ذلك التنافس بين روسيا وإيران على أسلوب إدارة الصراع وأجندته.
تقع مسؤولية كبيرة أيضا على أطراف المعارضة المختلفة، وبشكل خاص على ممثلي منصتي موسكو والقاهرة، في تجاوز الضغوط المختلفة التي تُمارس عليهما من داعميهما، والتوصل إلى صيغةٍ للعمل مع الهيئة العليا للمفاوضات فريقاً واحداً.
ففي غياب أي إمكانية للحسم العسكري، أو حتى السياسي، لصالح أي من الأطراف المتنازعة، السورية والدولية معا، واعتراف الجميع بضرورة العمل على تسويةٍ تضع حدا لسفك الدماء
وتخرج البلاد من الكارثة، لم يعد هناك سوى خيارين متاحين. الأول هو تسويةٌ تقوم على فرضية إمكانية إضعاف المعارضة، حتى من خلال المفاوضات، إلى درجةٍ تجبرها على القبول بالالتحاق بالنظام، ما يعني بقاء النظام الديكتاتوري القائم وإعادة دمج المعارضة أو جزء منها به، مع بعض التجميل لواجهته الدستورية والسياسية هنا وهناك. والثاني إعادة دمج العناصر الخارجة من نظام العنف والطغيان الراهن في نظام ديمقراطي تعدّدي جديد، يتيح لسورية والسوريين بدء مرحلة جديدة، في قطيعةٍ كاملةٍ مع ممارسات السلطة القديمة وعقيدتها وأخلاقياتها الدموية. وليس للضغط على منصتي القاهرة وموسكو للبقاء خارج إطار الوفد الموحد للمعارضة، تحت مظلة الهيئة العليا في نظري سوى هدف واحد، هو تعظيم فرص الخيار الأول على حساب الخيار الثاني. ولا أعتقد أن أي معارض، مهما كانت درجة اعتداله ومرونته، سيكون سعيدا بمثل هذا الخيار، اللهم إلا إذا كان هو نفسه اختراقا داخل المعارضة في الأصل، بهدف تقويض أي فرصة لتغيير نظام الفساد والاستبداد.
ويشكل عدم التزام نظام الأسد وحلفائه الإقليميين والدوليين بقرارات الأمم المتحدة وباتفاقيات وقف إطلاق النار واستمرارهم في ارتكاب انتهاكاتٍ خطيرة بحق المدنيين، سواء من خلال متابعة القصف بالبراميل المتفجرة وضرب الحصار على المدن والأحياء من أجل تجويعها ورفض إطلاق سراح المعتقلين، يشكل تحديا مباشرا للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي يجد نفسه في بداية ولايته في حالة عجز كامل عن إطلاق أي مفاوضات جدية، وهو مضطر إذا لم يرد أن يفقد صدقيته منذ بداية ولايته أن يتدخل لحماية المفاوضات، وضمان استقلالها عن الأطراف المتنازعة وحيادية. وقد تحول المبعوث الأممي إلى مفاوض إضافي، أو وكيل للمفاوض الروسي ومنفذ أجندته السياسية، بل إنني أعتقد أن الوقت قد حان لكي يضع الأمين العام للأمم المتحدة حدا لهذه المهزلة التفاوضية المستمرة منذ ست سنوات من دون نتيجة ولا فائدة، ويطلق مبادرةً جديدةً تضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. هذا واجبه، وتلك هي مسؤوليته، ولديه الشرعية كاملة أمام تقاعس الدول، ورفضها التفاهم، واستمرارها بحثا عن مصالح لا مشروعة ولا قانونية، في تدمير شعبٍ بأكمله، والقبول بأبشع جرائم القتل الجماعي والتهجير القسري والإبادة الجماعية.
أن الغاية من هذه المفاوضات لم تكن تلبية تطلعات السوريين، وضمان سيادتهم على أرضهم، واستعادة وحدتهم الوطنية، وضمان حقوقهم الأساسية، في الكرامة والحريّة وحكم العدالة والمساواة أمام القانون، وإنما تكريس المكاسب الإقليمية والعسكرية والسياسية التي حققتها أطراف التحالف المضاد للثورة ووكلاؤه الداخليون والخارجيون، ومن وراء ذلك تفاقم الصراع على تقاسم مناطق النفوذ في البلاد.
وأن نظام الأسد وحلفاءه لايزالون يصرّون على التنكر لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والتهرب من تطبيقها في الوقت الذي يسعون فيه إلى كسب الوقت، والاستمرار في تطبيق الحسم العسكري على الأرض.
ويشير جدول أعمال المفاوضات الذي تجاهل إجراءات الثقة التي لحظتها قرارات مجلس الأمن إلى حجم الاستهتار بحياة السوريين ومأساتهم، سواء ما تعلق منها بوقف القصف العشوائي أو
ومن اللافت للنظر الدور غير النزيه الذي تلعبه الأمم المتحدة، ممثلة بمبعوثها السيد ستيفان دي ميستورا الذي تحول من وسيط إلى مفاوض رديف عن الطرف الروسي وزبائنه في طهران ودمشق، فبدل أن يتمسك بجدول الأعمال الذي صاغه هو نفسه وكان في أساس الدعوة التي وجهت إلى الأطراف، خضع لضغوط، وقبل بنقل موضوع الاٍرهاب من جدول أعمال أستانا إلى جدول المفاوضات السياسية، في وقتٍ لا يكاد يكون هناك أي خلاف، لا سوري ولا دولي، حول معالجة ملف الإرهاب. والهدف من ذلك هو السعي إلى طمس مسألة الانتقال السياسي التي هي جوهر المفاوضات، كما كان قد أعلن هو نفسه عن ذلك من قبل، وتحويلها إلى مسألة من مسائل متعدّدة، وذلك لتحرير النظام والمحتمع الدولي من المسؤولية، ورمي الفشل المحتوم لها على جميع الأطراف بالتساوي. ويصب في السياق ذاته، وللهدف نفسه، وضع جميع نقاط جدول الأعمال على سويةٍ واحدةٍ من الأهمية، وإلغاء التسلسل الزمني لمناقشتها، وطرحها بالتوازي. وأخيرا، فرض منصتي موسكو والقاهرة على المعارضة كأطراف مستقلة من أجل تعزيز الضغوط على وفد الهيئة العليا، وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات، لصالح إعادة تأهيل النظام وحرمان السوريين من انتقال سياسي حقيقي.
لم يأت ضعف إنجازات جنيف 4 عن ضعف المعارضة أو التلاعب بأطرافها والضغط على الهيئة العليا لقبول ممثلين أقرب لموسكو وغيرها منهم لمطالب الشعب فحسب، وإنما لعوامل كثيرة، من أهمها تخبط الإدارة الأميركية الجديدة وعجزها، حتى الآن، عن بلورة رؤية واضحة في تناول ملف الشرق الأوسط عموما، والملف السوري خصوصا، وهو ما يترك جميع الأطراف الأخرى في حالة ترقبٍ وانتظار. ومنها استمرار رهان طهران والأسد على حرب استنزاف الفصائل المقاتلة المعارضة، بعد أن فقدت المبادرة في أكثر من موقع، وفي ما وراء ذلك التنافس بين روسيا وإيران على أسلوب إدارة الصراع وأجندته.
تقع مسؤولية كبيرة أيضا على أطراف المعارضة المختلفة، وبشكل خاص على ممثلي منصتي موسكو والقاهرة، في تجاوز الضغوط المختلفة التي تُمارس عليهما من داعميهما، والتوصل إلى صيغةٍ للعمل مع الهيئة العليا للمفاوضات فريقاً واحداً.
ففي غياب أي إمكانية للحسم العسكري، أو حتى السياسي، لصالح أي من الأطراف المتنازعة، السورية والدولية معا، واعتراف الجميع بضرورة العمل على تسويةٍ تضع حدا لسفك الدماء
ويشكل عدم التزام نظام الأسد وحلفائه الإقليميين والدوليين بقرارات الأمم المتحدة وباتفاقيات وقف إطلاق النار واستمرارهم في ارتكاب انتهاكاتٍ خطيرة بحق المدنيين، سواء من خلال متابعة القصف بالبراميل المتفجرة وضرب الحصار على المدن والأحياء من أجل تجويعها ورفض إطلاق سراح المعتقلين، يشكل تحديا مباشرا للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي يجد نفسه في بداية ولايته في حالة عجز كامل عن إطلاق أي مفاوضات جدية، وهو مضطر إذا لم يرد أن يفقد صدقيته منذ بداية ولايته أن يتدخل لحماية المفاوضات، وضمان استقلالها عن الأطراف المتنازعة وحيادية. وقد تحول المبعوث الأممي إلى مفاوض إضافي، أو وكيل للمفاوض الروسي ومنفذ أجندته السياسية، بل إنني أعتقد أن الوقت قد حان لكي يضع الأمين العام للأمم المتحدة حدا لهذه المهزلة التفاوضية المستمرة منذ ست سنوات من دون نتيجة ولا فائدة، ويطلق مبادرةً جديدةً تضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. هذا واجبه، وتلك هي مسؤوليته، ولديه الشرعية كاملة أمام تقاعس الدول، ورفضها التفاهم، واستمرارها بحثا عن مصالح لا مشروعة ولا قانونية، في تدمير شعبٍ بأكمله، والقبول بأبشع جرائم القتل الجماعي والتهجير القسري والإبادة الجماعية.