متى يأخذ الإخوان خطوة للخلف؟

08 يوليو 2014

... بعد اعتداء على مقر "الإخوان" في القاهرة (ديسمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

مضى عام على انقلاب الثالث من يوليو، ولا يزال "الإخوان المسلمون" في مصر على حالهم، يتظاهرون فيُعتقلون ويُطاردون ويُقتلون. عام مضى، ولا تزال صور الرئيس المعزول، محمد مرسي، مرفوعة في تظاهرات الإخوان، وشعار "عودة الشرعية" يطغى على ما دونه من شعارات. قطعاً من حق الإخوان أن يتظاهروا، وأن يدافعوا عن قضيتهم سلمياً، وبالشكل الذي يرونه مناسباً. ولكن، ليس من العقل أن يتحول التظاهر "هدفاً" بحد ذاته، وأن يصبح الاعتقال واستمراء التنكيل والقتل ملحمة "كربلائية" حماسية، تلهب العاطفة، من دون أن تنجز تغييراً ملموساً، أو تحقق الهدف المنشود منها.

لن أخوض في الكثير من مشكلات الإخوان، فكراً وقيادة وتنظيماً، ليس فقط لضيق المساحة، ولكن لأني أحسب أن كثيراً منها بات معروفاً للقيادات وللصف الإخواني. ولكن، ثمة مشكلة حقيقية في الاستراتيجية والتكتيك السياسي للإخوان، منذ وقوع الانقلاب. فالجماعة تعتمد سياسة "النفَس الطويل" و"الصمود الأسطوري" الذي أصبح غاية بحد ذاته، ودليلاً على "إخلاص الفرد وتجرده". مثل هذه الاستراتيجية، إن صح وصفها بذلك، "عدمية" تعكس فقراً وضعفاً في الخيال، وجموداً في التفكير، وليس لها من هدف سوى الإبقاء على التنظيم بأي ثمن.


هذا المنطق "العدمي" لا يتعدى كونه "حيلة نفسية"، لا أكثر، هدفها الوحيد ضمان تماسك البناء الداخلي للجماعة، وعدم انفراط عقده. فالجماعة تستثمر في بنيتها العقائدية، ومخزونها التربوي والتنظيمي القوي، والذي لا يزال صامداً، على الرغم من محاولات التفكيك والتشكيك والتركيع. وهو، وإن كان أمراً محموداً ومدعاة للإعجاب والفخر، فإن عدم إنجاز الهدف الرئيس للجماعة، وهو "إسقاط الانقلاب"، يصبح سبباً للرثاء، وإثارة الأسئلة حول جدواه من الأصل. وعلى هذا النحو، فإن في مقدور الجماعة الصمود مائة عام مقبلة، إن أرادت، من دون أن تنجز أي هدف يتجاوز مسألة البقاء.

الأكثر من ذلك، بدلاً من أن يصبح الانقلاب سبباً مهماً لمراجعة الأخطاء، واستخلاص الدروس والعبر لتداركها، أصبح حائطاً للمبكى، ومدخلاً لتأصيل وتجذير الفكر التآمري وسيطرة العقل الدوغمائي على الجماعة، صفاً وقيادات. ولا غرو أن يجري، الآن، استحضار فقه وأدبيات المحنة والابتلاء التي تحث على الصمود، حتى "آخر نفس"، والبقاء حتى "آخر قطرة دم".
 
ويتم استلهام المفاهيم الكربلائية للجماعة كـ"العزلة الشعورية" و"التطهّر" و"نفي الخبث" عن الصف وأعضائه. ولا غرابة فى أن تحظى كتابات سيد قطب التطهّرية (الظلال ومعالم فى الطريق)، وأطروحات السوري سعيد حوّى التعبوية (سلسلة جند الله)، وملزمات اللبناني فتحي يكن العقابية (ماذا يعني انتمائي للإسلام؟ والمتساقطون على طريق الدعوة...إلخ)، بمساحة متزايدة داخل المحاضن الإخوانية، من أجل الحفاظ على تماسك التنظيم، ومنع التشققات، حتى وإن كان ثمن ذلك أرواحاً تُزهق، ونفوساً تُستباح، وأعراضاً تُنتهك.

ولا يُعقل أن تستمر الجماعة فى تقديم التضحيات قرباناً للتنظيم وقياداته، وأن تتزايد دعوات الاستشهاد والموت على أنصال السياسة التي أصبحت، الآن، ميداناً للجهاد والمفاصلة العقائدية بين حق وباطل، وخير وشر، وليست مجرد وسيلةٍ، وميداناً زمنياً محضاً، أصله الاجتهاد والصواب والمحاولة والخطأ.

لذا، ليس غريباً أنه كلما ازداد تمسك الجماعة بطقوسها في أوقات المحنة ازدادت عزلتها عن الواقع وعن المجتمع، بل ويزداد الانطواء، وتستعر الرغبة في الانتقام من هذا الواقع، وعقاب ذلك المجتمع "غير الواعي" (تابعوا تعليقات كثيرين من أعضاء الجماعة على ارتفاع الأسعار، وشماتة بعضهم فى المصريين بشكل مراهق وصبياني). وبدلاً من أن تستفيد الجماعة من حالة الانكشاف والتأزم المتزايدة التي يعاني منها نظام السيسي الهشّ، من أجل تغيير لغتها وخطابها وتكتيكاتها، بحيث يمكن توسيع قاعدة تأييدها من خارج المنتمين إليها، أو المتعاطفين معها، يجري التشفي في ذلك المجتمع "الذي باعهم وخذلهم"، حسبما يردد كثيرون من أعضاء الجماعة.

قطعاً، لا أطالب "الإخوان" بالتوقف عن تظاهراتهم، أو قبول الأمر الواقع، مثلما ينادي به بعضهم، ولا أحمل الجماعة المسؤولية عن معتقليها وضحاياها، فهؤلاء جميعاً مسؤوليتهم في رقبة النظام الانقلابي السلطوي، وإنما أطالبهم بأن يأخذوا خطوة للخلف، يلتقطوا فيها الأنفاس، ويعيدون فيها الحسابات، ويرون فيها الصورة كاملة. فالتعويل على أن "الصمود" في الشارع وحده سوف يُسقط الانقلاب مجرد وهم.

لن يثور الناس من أجل محمد مرسي أو الإخوان، ولن يتوحد ما تبقى من القوى الثورية، مثلما فعلت إبان ثورة 25 يناير، في ظل تمسك الإخوان بطريقتهم نفسها في التعامل معهم التي تقوم على الاستخفاف والامتهان والاحتقار.

آن الأوان لأن تخرج الجماعة من "شرنقة التنظيم" إلى "الفضاء المفتوح"، وأن تتخلص، وبسرعة، من ذاتيتها والتمحور حول إيديولوجيتها وأفكارها التي ساهمت فى الوصول إلى ما هي عليه الآن. وعلى قادة الجماعة أن يكونوا صرحاء مع أنفسهم، ومع أبناء الصف الذين يضحون يومياً بأرواحهم وحرياتهم ومستقبلهم، وأن يتحلوا بالشجاعة، ويجيبوهم على السؤال التالي: ماذا لو لم يسقط الانقلاب؟ وماذا لو لم يعد مرسي إلى السلطة؟

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".