متلازمة أولى للغربة

08 سبتمبر 2015
لوحة للفنانة السعودية فاطمة النمر
+ الخط -
هكذا، كصرخة في ظلمات الجب تنفجر الأسئلة، تحيل العتمة جحيمًا، والمسافات ضياعًا، تمامًا كسؤال طائر الدوريِّ الجميل في قفصه عمّا يجبره على التغريد إلا أنه يفعل، كتساؤل القطة المتسوّلة لماذا تئنّ وهي متيقنة أن لن تلتقطها إلا حاويات الزبل في المنتهى، كتساؤل الريح عن جدوى السفر، كتساؤلي الساعة عن معنى القدر.
ولا أظنّك قادراً على الفهم يا سيدي، وأنا أكاد أجزم بأني قادرٌ على قراءة أيامك في فنجان وهمي تناولنيه لأقرأ طالعك. الطوالع من الغيب يا سيدي، إنما الماضي يرتسم في كلّ أطرافك الناتئة ليفضحك لي، تمامًا كابتسامتك الصفراء الباهتة التي يتصنّعها وجهك اللحظة، الابتسامة ذاتها التي اغتالت سؤالك قبل قليل، لتتسمّر فزاعةً للأجوبة التي لطالما اكتنزتها بعد كلّ لقاءٍ يشبه هذا الذي يجمعنا اللحظة، موهمًا خصمك أنك تقف تمامًا على الحياد ولا تهمك سوى الحقيقة. والحقائق يا سيدي كذبة أو حالة، تمامًا كنحن، وبالضبط كما وصف الخنزير أخوته يوماً، ما نحن إلا حالة، لخطبك وخططك وشعاراتك وأحلامك الترويجية.

اقرأ أيضاً: الشعر السعودي محل للشجاعة والفتنة

نحن يا سيدي لا نقضي أعمارنا إلا في الركض خلف ما لن ندرك، متيقنين تمامًا من ذلك، مرددين "اسعَ يا عبد" وما في الواقع آية تناص ذلك. أليس من الحماقة ألا ننتبه إلا وقد زلّت أقدامنا في وحل الأقدار كلّ مرة؟ ومذ خلقت أوّل الأمر وأنا متيقن أني إن ركضت بسرعة كافية قد أتمكن من اللحاق بالحياة أخيرًا!
أبيت كلّ ليلة لأموت على الزهق ذاته. أُخلق كلّ نهار على أمل جديد لا معنى له، سأركض بالسرعة الكافية هذه المرة، وسأصل، لتتطاير كلّ الأوراق الخريفية في وجهي كمشهد درامي، أختلقه من كم الأفلام التي لطالما أغرمت بها. ولا أقف، ترفّ فراشة وهمية في الركن القصي من الحديقة الوهمية التي تمتلئ بأطفال وهميين، ولا أتمهل، أسارع العدو أكثر إن أنا لمحت أحدًا يشبهني يسعى إلى ما أشتهي. الإشارة الحمراء توحي بأن لا بدّ من أن نقف الآن، ولا أقف. وكريشة هاربة من "صندقة" حمامٍ أتطاير ما بين العربات المتوقفة وأسراب البشر المهاجرة إلى دواماتها في صفيح.
وكان أن صدقت ياسيدي أولى الكذبات في الصف الأول الابتدائي؛ من جَدّ وَجَد ومن زرع حصد، فطفقت أزرع كل حلم أعبره، مرددًا العبارة ذاتها. أحرث أيامي للأحلام، أسقيها من الأمل ودعاء أمي كلّ ليلة، وأستيقظ صباحًا على ضجيج الشارع، ألملم الحلم الأخير، لأعود وأغرسه هناك في البقعة التي اخترتها قبيل الذهاب إلى المدرسة.
إلا أن الأحلام "ما تأكل عيش"، ولا تطرح كلأً. متأخرًا جدًا تعلمت ذلك، وبقلبٍ امتلأ بالخضرة الكاذبة وزّعت عمري أوراقًا على كل من سأل، طرقت الأبواب وما استيأست يومًا، وها أنا ذا أركض للحاق بالحياة التي لطالما ركضت خلفها، متأبطًا كلّ أجوبتي المعلبة لأجيب عن كل أسئلتك المتعلقة باستمراري في الركض بلا مبرر واضح. سأجيب كما ينبغي لي وأكثر يا سيدي، بالحنكة التي تدرّبت عليها البارحة، بالثقة المصطنعة التي أغلّف بها ارتباكي أمامك من سؤال واحد لا جواب له : "ويش ترجع !".
(كاتب سعودي)
المساهمون