كانت أزمة التحرير الأبرز يوم الإثنين 31 يناير/كانون الثاني2011، هو التغطية الإعلامية للميدان، فقد كان التلفزيون الرسمي والقنوات الموالية للنظام تحاول إظهار الميدان الفارغ من المتظاهرين، وأن المواطنين المصريين المتظاهرين السلميين الذين خرجوا يوم الجمعة للتعبير عن غضبهم من سوء بعض الأحوال، وقاموا بإيصال صوتهم للحكومة، قد عادوا إلى بيوتهم، ولم يبق إلا المخربين المندسين أصحاب الأجندات الخاصة، وهؤلاء قلة قليلة لا تعبر عن الشعب، وكانت كاميرات التلفزيون المصري مسلطة على كورنيش النيل، حيث الحركة هادئة وشوارع الوطن وأموره مستقرة!
كان يؤرقنا كيف نوصل صوتنا إلى مصر، وننقل لباقي الوطن حقيقة الميدان ونبضه؟ كيف نضمن ألا يذبح الميدان في صمت إذا ما أقدموا على خطوة كهذه؟ خاصة وأن قوات الأمن قامت بمداهمة قناة الجزيرة وحطمت أجهزتها، وهي القناة الوحيدة تقريبا في هذا الوقت التي كنا نراهن على تغطيتها لما يحدث بشكل حقيقي ومهني.
كان زميلنا عبد الرحمن هريدي قد اقترح أن ندرس إمكانية أن يكون للميدان إعلامه الخاص الذي يوصل صوته للخارج، وقام بعمل دعوة لكل الفنيين الموجودين بالميدان الذين يعملون بمجال الاتصالات ومن لهم علاقة بأعمال التلفزيون أو البث أو الشبكات للتجمع في مدخل شارع طلعت حرب أمام كنتاكي، وبدأ الشباب يتوافدون وبدأنا ورشة عمل حول "كيف يكون للميدان إعلامه الخاص" وكانت هناك عدة اقتراحات، من ضمنها عمل دائرة بث تلفزيونية مغلقة تغطي المنطقة المحيطة بالميدان مبدئيا، لحين بحث إمكانية توسيع نطاق التغطية، وكان من بين الشباب الموجودين، مهندس في شركة من شركات الهاتف المحمول، وأخبرنا أن إحدى شركات المحمول لديها أجهزة بث فوق سطح إحدى عمارات الميدان، وأن بإمكانه، تقنيا محاولة استخدام شفراتها لعمل بث تلفزيوني من الميدان، غير أن الأمر يحتاج لدراسة تفاصيل تقنية وقانونية.. وغير ذلك من الأفكار التي ظل النقاش حولها مستمرا فترة طويلة.
وحاولنا التفكير مع الشباب الموجودين بشكل مفتوح في كل الخيارات التي يمكن توفيرها لتوفير تغطية إعلامية للميدان، مع محاولة تلافي الاعتداء على الملكيات الخاصة، وأخبرناهم أننا سنسعى من خلال الإمكانات المحدودة المتاحة في الميدان والتي أغلبها إمكانات فنية وبشرية، أن ننفذ ولو فكرة من هذه الأفكار.
وتم اختصار الأفكار المطروحة لعدد محدود، وتم تقسيم الشباب الموجودين إلى فرق عمل حسب التخصص، ليقوم كل فريق بدراسة تفصيلية سريعة حول احتياجات تنفيذ واحد من هذه المقترحات، وأعطيناهم فرصة من الوقت حتى يصل كل فريق إلى نهاية تصوره، ونرى أي هذه المقترحات قابل للتنفيذ.
خلال هذه الفترة كان هناك رقم تلفون غريب يتصل بي لأكثر من ساعتين، ونظرا لانشغالي وأن الرقم غريب، لم أستطع الرد عليه حتى قمنا بتقسيم فرق العمل، وحين نظرت إلى الموبايل وجدت أن هذا الرقم حاول الاتصال بي أكثر من 15 مرة، فاتصلت به واعتذرت لصاحبه عن عدم قدرتي على الرد لانشغالي.
كان المتصل أحد أفراد طاقم قناة الجزيرة الإنجليزية واسمه (أحمد ي.)، وأخبرني أنه يريد مقابلتي لأمر هام وعاجل.
اتفقنا والتقينا قريبا من محل كنتاكي بقلب الميدان، فأخبرني أن قوات الأمن قد داهمت مقر القناة وحطمت أغلب الأجهزة واعتقلت عددا من زملائه، وأنه استطاع الخروج قبل الاقتحام ببعض المعدات (كاميرا وجهاز للبث وبعض المعدات الأخرى) وأن صديقا مشتركا نصحه أن يتصل بي لعلنا نستطيع مساعدته في الخروج بالأجهزة.
كدت أسقط على الأرض من دهشتي وفرحتي، وقلت له: "يا عم انت فين من الصبح؟!! قال لي: بحاول اتصل عليك وانت ما بتردش!! وها هي الأدوات التي كنا نحتاجها قد توفرت".
كلمت زملاءنا وأخبرتهم بالأمر، وطلبت من عدد منهم مرافقتي.. وكانت الأجهزة مخبأة في الدور العلوي في البناية التي يقع فيها مقر القناة، فراقبنا المكان ونزلنا بالأجهزة حتى أدخلناها إلى الميدان في حراسة مشددة من شبابنا.
وخضنا في مناقشات حول المكان المناسب الذي يمكن أن يتم تثبيت الأجهزة والكاميرا فيه، بما يتيح تغطية جيدة للميدان وسهولة تأمينه وحمايته، إلى أن اتفقنا على وضع الأجهزة فوق لوحة إعلانات ضخمة كانت موجودة أمام حديقة مسجد عمر مكرم، على مدخل الميدان من جهة كوبري قصر النيل، وصعدت مع (أحمد) فوق اللوحة لتقييم الموقع الجديد للتصوير، وبدأ هو بالتواصل مع زملائه في القناة لمعرفة الأدوات والمعدات المطلوبة لإتمام المهمة.
وتولى مجموعة من الأصدقاء توفير حماية لموقع البث الجديد، ومنع أحد من الوصول إليه. وأخبرنا (أحمد) بحاجته إلى بعض الأجهزة والمعدات التكميلية، فاتصلت بأحد أصدقائنا العاملين في الإنتاج الفني، والذي عمل في الجزيرة فترة ليست بالقصيرة سابقا، وأخبرته بما حدث وقام من جهته بالاتصال ببعض الأطراف في إدارة قناة الجزيرة، ليطلب منه تقديم المساعدة وتوفير المعدات المطلوبة.. لكنه سيحاول البدء في البث ولو بشكل محدود حتى يتم توفير باقي الاحتياجات.
وبالفعل، بدأت خلال وقت قصير أول تغطية إعلامية من داخل ميدان التحرير. وبعد ذلك وصل طاقم صغير من القناة ومعهم الأجهزة المطلوبة، وذهب بعض أصدقائنا (زين وإسلام) لاستقبالهم في المطار، وعادوا بهم إلى الميدان بعد مغامرات ومخاطر عديدة تعرضوا لها في أكمنة الجيش والشرطة.
ثم أرسلت الجزيرة أحد أعضاء فرق الإنتاج لديها (منتصر مرعي)، ليتولى متابعة التغطية، وقمنا بنقل موقع البث من أمام مسجد عمر مكرم إلى وسط الميدان إلى أن استقر موقعهم أخيراً خلف ما سمي لاحقا "المنصة الرئيسية". لتكون أكثر أمنا، ولم يسلم فريق القناة بعدها من الملاحقة، وكنا لا نفصح عن شخصياتهم ونخفي أماكن وجودهم بسبب محاولات استهدافهم واعتقالهم. حتى أننا اضطررنا إلى توفير مبيت لهم في بعض الليالي داخل الميدان.
كنا نخشى على سلامتهم وعملهم، وكنا أحوج ما نكون إلى الدور الذي يقومون به في إيصال صوتنا وأخبارنا للعالم بصورة حقيقية ومهنية.