30 ديسمبر 2021
ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب (6)
الصفحة الخامسة: كيف وصلنا من سمير رجب إلى ما هو أسوأ من سمير رجب؟
...
"أنا شكرت اللي خلقك واللي أودع فيك
أجمل صفات ابن آدم يا وحيد جيلك
السين من السعد في سعيك إلى قدام
والميم من المجد مكتوب لك على الأيام
والياء يا نور النبي ع العزم والإقدام
والرِه رعاية الإله فاردة أمانها عليك
سميرومالك نظير في طايفة الإعلام"
تستطيع أن تأخذ فكرة وافية عن مدى التخريب الذي أحدثه سمير رجب في بنيان الصحافة الحكومية الآيل للسقوط، حين أقول لك أن هذه الأبيات الفضيحة التي كتبها الشاعر كمال عمار نفاقاً له، لم يتم الاكتفاء بإلقائها على سبيل المودة اللزجة في أحد احتفالات مؤسسة دار التحرير، ولم تُنشر فحسب في صحيفة (المساء) التي ظل كمال عمار يكتب لسنوات هذا النوع الركيك من الشعر في صفحتها الأولى، بل إنها من فرط إعجاب سمير رجب بها، تم طباعة مائة نسخة منها من الحجم الكبير بقرار من سمير رجب، وتم تعليقها في مواضع متفرقة من حوائط مؤسسة دار التحرير، وتم منح كاتبها مكافأة سخية موثقة بقرار رسمي وجد طريقه إلى النشر، وتحول إلى فضيحة علنية، ومع ذلك لم يؤثر في مكانة سمير رجب وحظوته لدى حسني مبارك، الذي كان يستخدمه لتصفية حساباته مع كثير ممن لا يروقون له، بشكل أكثر فجاجة مما كان يفعله إبراهيم سعدة، لتتحول "الكبسولات" التي كان يكتبها سمير رجب، إلى رسائل يرسلها نظام حسني مبارك لخصومه ومعارضيه، وأحياناً لرجاله الذين يحتاجون إلى بعض الصفعات والركلات ليحسنوا من أدائهم في الولاء والطاعة.
أصبح سمير رجب في سنوات قليلة صوت النظام الأكثر نفاقاً وموالسة، بشكل يخجل منه حتى موسى صبري صاحب مدرسة "نعم أنا أطبل وأزمر"، ليضيف لمسته الخاصة المتفردة عمن سبقوه، باستخدام الآيات القرآنية في نفاق الرئيس بشكل متكرر، حيث تعود على أن يختار بعض الآيات التي نزلت في الرسول صلى الله عليه وسلم، ليرفقها بالمقالات التي يملأها بمديح مبارك والتزلف له، مثل آية "والله يعصمك من الناس"، وآية "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، دون أن توقفه عن ذلك الانتقادات الحادة التي تعرض لها من الصحف المعارضة، ولا نصائح تهدئة حدة النفاق التي كانت تأتيه من بعض الكتاب الموالين للنظام، لأن ما يفعله يسبب لهم الإحراج ويسيئ إلى صورة النظام الذي استفاد كثيراً خلال فترة الثمانينات من صورة النظام واسع الصدر الذي يضع مسافة بينه وبين الصحافة الحكومية ويترك لها استقلالية لم تنلها في عهدي سابقيه.
حين وجّه الكاتب محمد مصطفى في منتصف التسعينات سؤالاً لسمير رجب قال فيه: "ما رأيك فيمن يقولون أنك تؤيد السلطة بشكل كامل وبلا جدال، وهو ما لا يفعله رؤساء التحرير الآخرون"، قال له سمير رجب بهدوء يُحسد عليه إنه لا يؤيد السلطة بشكل كامل وفي كل الأوقات "لأنه لا توجد سلطة يصل إنجازها لدرجة الكمال، لكنني مع العقلانية والموضوعية، ولأنني في أحيان كثيرة أكون قريباً من مواقع الأحداث، أعرف الحقيقة بكل أبعادها، لذا أكتب عن اقتناع تام ما أشعر به شخصياً وأحياناً أجد أن الحقيقة تشوّه وأجد من واجبي إظهارها، وأتلقى يومياً مئات من الخطابات وهو ما يدل على شعور المواطنين بأنني أعبر عنهم وليس عن السلطة"، ولم يجد سمير رجب حرجاً في الإعلان عن انتقاده لعدد من زملائه من رؤساء تحرير الصحف الحكومية، الذين اعتبر أن مشكلتهم أن لديهم حسابات وموازنات تجعلهم يمسكون العصا من المنتصف في تأييدهم للنظام، أما هو فالمسألة لديه أبيض وأسود، إما أن تكون مع النظام دائماً وإلا فأنت ضد النظام أبداً، ولذلك ربما اختار لمقاله اليومي عنوان (خطوط فاصلة)، ليفصل نفسه عن باقي زملائه الذين لا يؤيدون النظام بالشكل المطلوب.
في منتصف التسعينات بيعت آلاف النسخ من كتاب يحمل عنوان (ظاهرة سمير رجب قصة الصعود والسقوط)، أصدره الصحفي الناصري مصطفى بكري عقب معركة طاحنة خاضها بكري مع سمير رجب على مدى سنوات سابقة، واجتذبت لمتابعتها آلاف القراء، وساعدت مصطفى بكري على تأكيد صورته كمعارض شرس في عهد مبارك، وساعدت أيضاً سمير رجب على تأكيد نفوذه ككاتب السلطة الأول الذي لا تؤثر فيه الحملات المعارضة، خاصة أنه لم يسقط بالفعل إلا بعد عشر سنوات كاملة من صدور كتاب بكري وانتشاره، ليؤكد بذلك ما نسبه إليه مصطفى بكري في كتابه أنه قال في إحدى سهراته مع بعض الشخصيات العامة: "لكل عصر رجاله، وإذا كان هيكل هو الناطق باسم عبد الناصر وموسى صبري رجل السادات الأول في الإعلام، فاسمحوا لي أن أقول لكم وبلا فخر إن الرئيس مبارك يعتبرني المتحدث باسم النظام"، وعندما رد عليه أحد الحضور "طب ومكرم محمد أحمد وإبراهيم نافع ما هم رجالة النظام برضه؟"، فرد أحد أنصار سمير رجب الموجودين في الجلسة قائلاً إنه لو كان النظام مقتنعاً بأي من الاثنين لولاه على الفور رئاسة تحرير (مايو)، ولكن ذلك لم يحدث، وهو ما أطرب سمير رجب وأدى لانفراج أساريره، فبدأ يتحدث عن الخطب السياسية التي يعدها للرئيس والرؤى التي يطرحها على الرئيس من خلال هذه الخطب، مع أن سمير رجب ـ كما يقول بكري ـ "لم يكن له علاقة من قريب أو بعيد بخطب مبارك، لكن بعضهم بدأ يصدق بالفعل إنه يكتب ويفكر ويقدم النصائح".
كان مصطفى بكري يسعى لتوريط سمير رجب بما نشره، لأنه يعرف أن حسني مبارك كان يعتبر أن مسألة التباهي بوجود علاقة خاصة به خط أحمر، يحاسب عليه كل من يتعداه، فحتى مكرم محمد أحمد رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة (المصور) والذي ظل يكتب خطب مبارك لسنوات، لم يكن يستطيع أبداً أن يصرح بذلك على الملأ، وهو ما اكتشفته حين كنت أعد تحقيقاً صحفياً ذات مرة بعنوان (من يكتب خطب الرئيس) ـ سأعيد نشره قريباً ـ لكن التوريط الذي تصوره مصطفى بكري لم يحدث، وعلى عكس ما توقع كثيرون، لم يقم سمير رجب برفع دعوى قضائية على مصطفى بكري، يكذب فيها ما قاله، لكي يبرئ ساحته أمام مبارك، بل تجاهل الأمر وواصل أداءه الفج في تأييد النظام ونفاق رأسه وخوض المعارك الشرسة مع معارضي النظام، بل ومع معارضي سمير رجب من أنصار النظام، وهو ما جعل الكثيرين يصدقون ما كان يقوله سمير رجب عن امتلاكه علاقة خاصة بحسني مبارك تمنحه حصانة ضد كل ما يتعرض له من اتهامات.
في عز معارك سمير رجب المتبادلة مع الصحافة المعارضة التي كان يعتبر نفسه رأس حربة النظام في الهجوم عليها، كتب رئيس تحرير صحيفة (الشعب) المعارضة مجدي أحمد حسين مقالاً بعنوان (ظاهرة سمير رجب) أشار فيه إلى قيام سمير رجب بإشاعة أنه وثيق الصلة بالرئيس مبارك، وأنه يلتقي به يومياً أو يتصل به تليفونياً كل يوم على الاقل، ومع أنه حرص على وصف ذلك بـ "المزاعم"، فقد أشار إلى أن ما يغذي هذه المزاعم أن سمير رجب يجري بالفعل أحاديث صحفية على فترات متقاربة لصحيفة (مايو) برغم تحولها إلى صحيفة سرية، ثم يعيد نشرها في صحف دار التحرير التي يرأس مجلس إدارتها، برغم أنه لا يحسن كتابة وصياغة هذه الأحاديث، ثم أشار مجدي أحمد حسين إلى أن سمير رجب "أصبح مفروضاً على الأسر المصرية من خلال جهاز التلفزيون، وأن الوزراء الذين يشتمهم يخرجون من الوزارة فعلاً مما يؤكد أنه واصل بالفعل"، وروى مجدي حسين أنه التقى بمسئول كبير رفض ذكر اسمه في أعقاب المعركة التي خاضها سمير رجب ضد فؤاد سراج الدين وإبراهيم شكري، فأعرب له المسئول الكبير عن استيائه الشديد من تلك الكتابات، وبعد أن أورد مجدي أحمد حسين هذه الوقائع في صورة بلاغ مفتوح إلى حسني مبارك، ختم مقاله ـ المعبر بوضوح عن سقف طموح المعارضة في ذلك الوقت التعيس من تاريخ مصر ـ بالتأكيد على أنه ليس من مصلحة نظام مبارك أن يرتبط اسم سمير رجب به، وأنه لا يمكن أن يسيئ النظام إلى وضعه بأكثر من هذا الربط الذي يشيعه سمير بجب في كل الأوساط السياسية والصحفية، وأن من المصلحة أن يبتعد سمير رجب عن النظام بمسافة واضحة ومعلومة للرأي العام.
ينبغي التأكيد على أن مقال مجدي أحمد حسين كان يعد مقالاً جريئاً بمعايير ذلك الزمان، لأن سمير رجب كان قد تحول بحكم الحديث الشائع عن علاقته الخاصة بمبارك إلى تابوه يخشى الكثيرون من مهاجمته بشكل مباشر، وكان هذا واضحاً في طريقة تعامل الرقابة على المطبوعات مع ما كتبته عنه في صحيفة (الدستور) سنة 1997، حين كانت لا تزال تخضع للرقابة بوصفها مطبوعة حاصلة على ترخيص قبرصي، في نفس الوقت الذي كان نظام مبارك يتباهى فيه ليل نهار بأنه النظام الذي أطلق حرية الصحافة وألغى الرقابة على الفكر والرأي، "ولم يقصف في عهده قلم ولم تصادر صحيفة"، فقد تشدد الرقيب في حذف كثير مما كتبته عن سمير رجب، في حين لم يتشدد بنفس القدر في التعامل مع ما كتبته عن غيره من كُتّاب النظام، ولم يكن هناك أي بديل لكي تسمح الرقابة بتمرير أي انتقاد لسمير رجب، إلا لو اتبع نفس منهج مجدي أحمد حسين في التأكيد على ضرورة أن يكون هناك مسافة بين النظام الحاكم وبين سمير رجب، والتأكيد على أن سمير رجب لا يمكن أن يكون خير معبر عن النظام، والإشارة إلى أن النظام حرص على أن يبعد نفسه عن سمير رجب حين طلب منه أن ينسحب من انتخابات نادي الشمس، ثم رفض طلبه بأن يترشح كنقيب للصحفيين، وفضل أن يختار بدلاً منه مكرم محمد أحمد، ومع ذلك كله فقد تم حذف بعض فقرات المقال، لأضطر إلى أن أكتب في خاتمته: "ما الذي يمكن أن يقال عن سمير رجب سوى ما يكتبه سمير رجب نفسه عن نفسه، فهو وحده الذي يمكن أن يوفي نفسه حقها ومستحقها، سمير رجب كفيل بنفسه".
كان منطق الرقابة في التشدد مع الهجوم على سمير رجب والتسامح مع الهجوم على غيره مثل إبراهيم سعدة وأنيس منصور، هو نفس المنطق الذي كان يسوقه كثير من رؤساء تحرير الصحف في ذلك الوقت التعيس، لمن يرغبون في مهاجمة سمير رجب من الكتاب والصحفيين، وهو أن الهجوم على سمير رجب سيجلب لهم صداعاً لا لزوم له، لأن لسانه صفيق ولا يتورع عن توجيه الشتائم على صفحات الصحف التي تصدرها دار التحرير، إما عبر ما يكتبه مباشرة أو ما يكتبه من يكلفهم بذلك من الصحفيين والكتاب، لذلك يظل تجاهله التام هو الأفضل والأسلم. لكن ذلك الاستثناء كان يسقط، حين يقوم سمير رجب بالتطاول على من هم أكثر منه حظوة لدى النظام من زملائه، مثل إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير (الأهرام) الذي كان سمير رجب طيلة الوقت طامعاً في مكانه في (الأهرام) وفي مكانه كنقيب للصحفيين، وحين كتب سمير رجب يهاجم إبراهيم نافع ويبشره بقرب الخروج من منصبه، سمح إبراهيم نافع للكاتب محمد زايد بمهاجمة سمير رجب بقوة على صفحات (الأهرام) بشكل قوي لم تعهده "الشقيقة الكبرى" المنضبطة في هذه المساحات من قبل، فكانت النتيجة أن تراجع سمير رجب على الفور، وأدرك أنه لا زال أقل من أن يهدد مكانة إبراهيم نافع لدى النظام، خاصة أن كل من كان يهاجم سمير رجب سواءً من مؤيدي النظام أو معارضيه، كان يحرص على تذكير سمير رجب بماضيه الصحفي المريب، وبأن صعوده إلى مكانه كرئيس لمجلس الإدارة ورئيس التحرير، لم يكن له علاقة بمشوار صحفي مشرف، أو بخبرة مهنية عريضة، كالتي كان يحرص النظام على توفرها فيمن يختارهم لخدمته، وهو ما لم يحدث في حالة سمير رجب، الذي كان تدشيناً لسياسة جديدة يختار بها نظام مبارك لخدمته، الأكثر وقاحة وفُجراً في تأييده، حتى لو لم يكن يمتلك أي مهارات صحفية أو خبرات إعلامية، وهي السياسة التي التزم بها نظام عبد الفتاح السيسي فيما بعد، وجعلها المعيار الوحيد للاختيار فيمن يسمح بتواجدهم على الساحة الصحفية والإعلامية.
كان الدكتور محمد عصفور القانوني المرموق والمعارض البارز قد عبّر عن هذا المعنى خير تعبير في مقال كتبه في صحيفة (الوفد) عام 1993 متحدثاً عن ظاهرة سمير رجب المعجزة، والتي حققها صعوده المثير من موظف في الأرشيف إلى رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة مؤسسة كبيرة، ومن صحفي كان ينقل الخبر بفمه لأنه لا يجيد كتابته، إلى صاحب عمود يومي يعتبر المتحدث بلسان النظام والمنظر لسياساته، وهي رحلة الصعود التي قرر مصطفى بكري أن يتتبعها ويرصدها بالمعلومات والوثائق، بعد صراعه المرير مع سمير رجب، والذي انتهى بنجاح سمير بالإطاحة به من موقعه كمراسل لإذاعة (مونت كارلو) ورئيس لتحرير صحيفة (مصر الفتاة) الحزبية.
يروي مصطفى بكري في كتابه الدور الذي لعبه الكاتب محسن محمد في إطلاق ظاهرة سمير رجب، بعد أن تولى محسن محمد رئاسة مجلس إدارة دار التحرير خلفاً لعبد المنعم الصاوي، بالإضافة إلى كونه من قبل رئيساً لتحرير صحيفة (الجمهورية)، حيث قام محسن بمساعدة سمير رجب على أن يتحول من موظف في الأرشيف لم يدرس الصحافة، بل حصل على ليسانس الآداب قسم تاريخ، إلى مندوب صحفي في مطار القاهرة، وبعد أن حرص سمير على رد الجميل لمحسن باستقباله في كل رحلاته وتقديم خدماته في التسليك والتشهيل مع رجال الجمارك وموظفي المطار الذين حرصوا على أن يحظى محسن محمد باستقبال ووداع حافلين حارين كلما غادر البلاد أو عاد إليها، طلب من محسن أن يخصص له صفحة كاملة بالجمهورية للسياحة والطيران، واعداً بأنها ستكون صفحة إعلانية تأتي بالخير الكثير للمؤسسة، واستجاب محسن لطلبه، وسمح له بكتابة عمود صحفي أسبوعي بدأ فيه ممارسة مواهبه في الغمز واللمز وتوجيه الرسائل التي تهدف لجلب الإعلانات، حامياً نفسه من الملاحظات والانتقادات التي يتعرض لها داخل المؤسسة، بتدبير تذاكر طيران مجانية ورحلات مخفضة من بعض شركات السياحة، لتنجح تلك الجهود في تقريبه أكثر من محسن محمد، في الوقت الذي كان محسن يضطهد فيه صحفيين من أبناء المؤسسة بحجم ومكانة صلاح عيسى، بشكل حكى عنه صلاح عيسى في عدة مقالات له، من أجملها وأكثرها إثارة للضحك المبكي مقالته (سلطة بسكّر) التي نشرها في كتابه الجميل (تباريح جريح).
كما يروي مصطفى بكري نقلاً عن شهادات الكثير من أبناء دار التحرير في تلك الفترة، خصص محسن محمد لسمير رجب مكتباً خاصاً في المؤسسة بالمخالفة للأعراف الصحفية، ثم دفع به بشكل غير رسمي إلى مصاف نواب رئيس التحرير، ليتولى مسئولية السهر والإشراف على العدد اليومي، في حالة غياب واحد من نواب رئيس التحرير الذين كانوا وقتها الصحفيين الكبار: عدلي برسوم ورأفت الخياط وأحمد عبد اللطيف ومحيي الدجوي، ثم تخطى الكثير من مستحقي الترقية وعيّن سمير رجب نائباً لرئيس تحرير العدد الأسبوعي من (الجمهورية)، وبعد أن اشتد صراع أحمد عادل رئيس تحرير صحيفة (المساء) مع محسن محمد، نجح محسن في إقصاء أحمد عادل، وقام بتعيين سمير رجب رئيساً لتحرير (المساء)، وبذل جهوداً كبيرة من أجل إقناع المسئولين بشخص سمير رجب وبولائه للنظام، حتى تم اختيار سمير رجب رئيساً لمجلس إدارة (الجمهورية) بدلاً من محسن محمد بعد أن تخطى محسن السن القانونية للبقاء في منصبه، لكن النظام لم يعط سمير رجب منصب رئيس تحرير (الجمهورية) كما كان يتمنى، بل منحه للكاتب محفوظ الأنصاري، وكان ذلك جزءاً من سياسة نظام مبارك في توزيع الحصص على رجاله بشكل محسوب، لكي يظل كل منهم في حالة شوق إلى المزيد، فيحرص على إثبات ولائه للرئيس والنظام.
كان محسن محمد حريصاً منذ البداية على دعم سمير رجب، ليس إدراكاً منه لمهاراته الصحفية المخبوءة، فقد كان محسن كاتباً بارعاً ويعرف مدى ضحالة سمير رجب وخوائه، لكنه كان يتمنى أن يضع خليفة مخلصاً له في إدارة المؤسسة، يساعده على استمرار مميزاته، خاصة أن النظام كان قد أتاح لمحسن أن يبقى في منصبه لمدة عام إضافي بعد بلوغه السن القانونية للإحالة على المعاش، ولذلك ظن أن دعم صحفي عديم الموهبة مثل سمير رجب، سيساعده على أن يظل متمتعاً بامتيازاته ككاتب وكصحفي قديم بعد خروجه من المنصب الإداري، لكن سمير رجب بدأ مشواره كرئيس مجلس إدارة في الإطاحة بمميزات محسن محمد، في تطبيق كلاسيكي معتبر لنموذج "الندالة" المملوكي، فكان أول قرار اتخذه سمير هو إخلاء مكتب محسن محمد فوراً، ليحتله سمير بنفسه قبل أن يتوسع فيه بعد ذلك، ويحوله إلى مكتب ملوكي صار الأشهر بين مكاتب الصحافة المصرية، ليس لأهمية ما كان يخرج منه من صحافة، بل لارتباطه بوجود (الجاكوزي) في حمامه، منافساً فنادق النجوم السبعة في فخامته وأبهته.
عندما احتج محسن محمد وطلب من سمير رجب أن يعيده إلى مكتبه، قال له سمير إنه يجهز له مكتباً محترماً في مبنى خارج المؤسسة، ثم فاجأه بأنه لن يعينه مستشاراً لمجلس الإدارة كما سبق وأن اتفقا، وقام باستدعاء الحاج بيومي السائق الخاص لمحسن محمد وطلب منه تسليم نفسه لإدارة جراج المؤسسة، ثم استولى على موقع العمود اليومي الذي كان يكتب فيه محسن محمد، ليقوم بتطفيشه سريعاً إلى صحيفة (أخبار اليوم) التي بدأ يكتب فيها كتاباته التاريخية المعتمدة على الوثائق الأجنبية، والتي أصبحت أهم ما قدمه وما يُذكر به لدى الأجيال التالية من القراء، ليتفرغ سمير بعد ذلك للمواجهات المتكررة مع محفوظ الأنصاري، والتي استمرت على مدى سنوات، ووصلت إلى حد أمره ذات مرة بقطع الكهرباء عن المطابع لوقف طباعة (الجمهورية) ما لم يرضخ محفوظ الأنصاري لشروطه.
...
نختم هذه الصفحة الأخيرة من هذه السلسلة غداً بإذن الله.
...
"أنا شكرت اللي خلقك واللي أودع فيك
أجمل صفات ابن آدم يا وحيد جيلك
السين من السعد في سعيك إلى قدام
والميم من المجد مكتوب لك على الأيام
والياء يا نور النبي ع العزم والإقدام
والرِه رعاية الإله فاردة أمانها عليك
سميرومالك نظير في طايفة الإعلام"
تستطيع أن تأخذ فكرة وافية عن مدى التخريب الذي أحدثه سمير رجب في بنيان الصحافة الحكومية الآيل للسقوط، حين أقول لك أن هذه الأبيات الفضيحة التي كتبها الشاعر كمال عمار نفاقاً له، لم يتم الاكتفاء بإلقائها على سبيل المودة اللزجة في أحد احتفالات مؤسسة دار التحرير، ولم تُنشر فحسب في صحيفة (المساء) التي ظل كمال عمار يكتب لسنوات هذا النوع الركيك من الشعر في صفحتها الأولى، بل إنها من فرط إعجاب سمير رجب بها، تم طباعة مائة نسخة منها من الحجم الكبير بقرار من سمير رجب، وتم تعليقها في مواضع متفرقة من حوائط مؤسسة دار التحرير، وتم منح كاتبها مكافأة سخية موثقة بقرار رسمي وجد طريقه إلى النشر، وتحول إلى فضيحة علنية، ومع ذلك لم يؤثر في مكانة سمير رجب وحظوته لدى حسني مبارك، الذي كان يستخدمه لتصفية حساباته مع كثير ممن لا يروقون له، بشكل أكثر فجاجة مما كان يفعله إبراهيم سعدة، لتتحول "الكبسولات" التي كان يكتبها سمير رجب، إلى رسائل يرسلها نظام حسني مبارك لخصومه ومعارضيه، وأحياناً لرجاله الذين يحتاجون إلى بعض الصفعات والركلات ليحسنوا من أدائهم في الولاء والطاعة.
أصبح سمير رجب في سنوات قليلة صوت النظام الأكثر نفاقاً وموالسة، بشكل يخجل منه حتى موسى صبري صاحب مدرسة "نعم أنا أطبل وأزمر"، ليضيف لمسته الخاصة المتفردة عمن سبقوه، باستخدام الآيات القرآنية في نفاق الرئيس بشكل متكرر، حيث تعود على أن يختار بعض الآيات التي نزلت في الرسول صلى الله عليه وسلم، ليرفقها بالمقالات التي يملأها بمديح مبارك والتزلف له، مثل آية "والله يعصمك من الناس"، وآية "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، دون أن توقفه عن ذلك الانتقادات الحادة التي تعرض لها من الصحف المعارضة، ولا نصائح تهدئة حدة النفاق التي كانت تأتيه من بعض الكتاب الموالين للنظام، لأن ما يفعله يسبب لهم الإحراج ويسيئ إلى صورة النظام الذي استفاد كثيراً خلال فترة الثمانينات من صورة النظام واسع الصدر الذي يضع مسافة بينه وبين الصحافة الحكومية ويترك لها استقلالية لم تنلها في عهدي سابقيه.
حين وجّه الكاتب محمد مصطفى في منتصف التسعينات سؤالاً لسمير رجب قال فيه: "ما رأيك فيمن يقولون أنك تؤيد السلطة بشكل كامل وبلا جدال، وهو ما لا يفعله رؤساء التحرير الآخرون"، قال له سمير رجب بهدوء يُحسد عليه إنه لا يؤيد السلطة بشكل كامل وفي كل الأوقات "لأنه لا توجد سلطة يصل إنجازها لدرجة الكمال، لكنني مع العقلانية والموضوعية، ولأنني في أحيان كثيرة أكون قريباً من مواقع الأحداث، أعرف الحقيقة بكل أبعادها، لذا أكتب عن اقتناع تام ما أشعر به شخصياً وأحياناً أجد أن الحقيقة تشوّه وأجد من واجبي إظهارها، وأتلقى يومياً مئات من الخطابات وهو ما يدل على شعور المواطنين بأنني أعبر عنهم وليس عن السلطة"، ولم يجد سمير رجب حرجاً في الإعلان عن انتقاده لعدد من زملائه من رؤساء تحرير الصحف الحكومية، الذين اعتبر أن مشكلتهم أن لديهم حسابات وموازنات تجعلهم يمسكون العصا من المنتصف في تأييدهم للنظام، أما هو فالمسألة لديه أبيض وأسود، إما أن تكون مع النظام دائماً وإلا فأنت ضد النظام أبداً، ولذلك ربما اختار لمقاله اليومي عنوان (خطوط فاصلة)، ليفصل نفسه عن باقي زملائه الذين لا يؤيدون النظام بالشكل المطلوب.
في منتصف التسعينات بيعت آلاف النسخ من كتاب يحمل عنوان (ظاهرة سمير رجب قصة الصعود والسقوط)، أصدره الصحفي الناصري مصطفى بكري عقب معركة طاحنة خاضها بكري مع سمير رجب على مدى سنوات سابقة، واجتذبت لمتابعتها آلاف القراء، وساعدت مصطفى بكري على تأكيد صورته كمعارض شرس في عهد مبارك، وساعدت أيضاً سمير رجب على تأكيد نفوذه ككاتب السلطة الأول الذي لا تؤثر فيه الحملات المعارضة، خاصة أنه لم يسقط بالفعل إلا بعد عشر سنوات كاملة من صدور كتاب بكري وانتشاره، ليؤكد بذلك ما نسبه إليه مصطفى بكري في كتابه أنه قال في إحدى سهراته مع بعض الشخصيات العامة: "لكل عصر رجاله، وإذا كان هيكل هو الناطق باسم عبد الناصر وموسى صبري رجل السادات الأول في الإعلام، فاسمحوا لي أن أقول لكم وبلا فخر إن الرئيس مبارك يعتبرني المتحدث باسم النظام"، وعندما رد عليه أحد الحضور "طب ومكرم محمد أحمد وإبراهيم نافع ما هم رجالة النظام برضه؟"، فرد أحد أنصار سمير رجب الموجودين في الجلسة قائلاً إنه لو كان النظام مقتنعاً بأي من الاثنين لولاه على الفور رئاسة تحرير (مايو)، ولكن ذلك لم يحدث، وهو ما أطرب سمير رجب وأدى لانفراج أساريره، فبدأ يتحدث عن الخطب السياسية التي يعدها للرئيس والرؤى التي يطرحها على الرئيس من خلال هذه الخطب، مع أن سمير رجب ـ كما يقول بكري ـ "لم يكن له علاقة من قريب أو بعيد بخطب مبارك، لكن بعضهم بدأ يصدق بالفعل إنه يكتب ويفكر ويقدم النصائح".
كان مصطفى بكري يسعى لتوريط سمير رجب بما نشره، لأنه يعرف أن حسني مبارك كان يعتبر أن مسألة التباهي بوجود علاقة خاصة به خط أحمر، يحاسب عليه كل من يتعداه، فحتى مكرم محمد أحمد رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة (المصور) والذي ظل يكتب خطب مبارك لسنوات، لم يكن يستطيع أبداً أن يصرح بذلك على الملأ، وهو ما اكتشفته حين كنت أعد تحقيقاً صحفياً ذات مرة بعنوان (من يكتب خطب الرئيس) ـ سأعيد نشره قريباً ـ لكن التوريط الذي تصوره مصطفى بكري لم يحدث، وعلى عكس ما توقع كثيرون، لم يقم سمير رجب برفع دعوى قضائية على مصطفى بكري، يكذب فيها ما قاله، لكي يبرئ ساحته أمام مبارك، بل تجاهل الأمر وواصل أداءه الفج في تأييد النظام ونفاق رأسه وخوض المعارك الشرسة مع معارضي النظام، بل ومع معارضي سمير رجب من أنصار النظام، وهو ما جعل الكثيرين يصدقون ما كان يقوله سمير رجب عن امتلاكه علاقة خاصة بحسني مبارك تمنحه حصانة ضد كل ما يتعرض له من اتهامات.
في عز معارك سمير رجب المتبادلة مع الصحافة المعارضة التي كان يعتبر نفسه رأس حربة النظام في الهجوم عليها، كتب رئيس تحرير صحيفة (الشعب) المعارضة مجدي أحمد حسين مقالاً بعنوان (ظاهرة سمير رجب) أشار فيه إلى قيام سمير رجب بإشاعة أنه وثيق الصلة بالرئيس مبارك، وأنه يلتقي به يومياً أو يتصل به تليفونياً كل يوم على الاقل، ومع أنه حرص على وصف ذلك بـ "المزاعم"، فقد أشار إلى أن ما يغذي هذه المزاعم أن سمير رجب يجري بالفعل أحاديث صحفية على فترات متقاربة لصحيفة (مايو) برغم تحولها إلى صحيفة سرية، ثم يعيد نشرها في صحف دار التحرير التي يرأس مجلس إدارتها، برغم أنه لا يحسن كتابة وصياغة هذه الأحاديث، ثم أشار مجدي أحمد حسين إلى أن سمير رجب "أصبح مفروضاً على الأسر المصرية من خلال جهاز التلفزيون، وأن الوزراء الذين يشتمهم يخرجون من الوزارة فعلاً مما يؤكد أنه واصل بالفعل"، وروى مجدي حسين أنه التقى بمسئول كبير رفض ذكر اسمه في أعقاب المعركة التي خاضها سمير رجب ضد فؤاد سراج الدين وإبراهيم شكري، فأعرب له المسئول الكبير عن استيائه الشديد من تلك الكتابات، وبعد أن أورد مجدي أحمد حسين هذه الوقائع في صورة بلاغ مفتوح إلى حسني مبارك، ختم مقاله ـ المعبر بوضوح عن سقف طموح المعارضة في ذلك الوقت التعيس من تاريخ مصر ـ بالتأكيد على أنه ليس من مصلحة نظام مبارك أن يرتبط اسم سمير رجب به، وأنه لا يمكن أن يسيئ النظام إلى وضعه بأكثر من هذا الربط الذي يشيعه سمير بجب في كل الأوساط السياسية والصحفية، وأن من المصلحة أن يبتعد سمير رجب عن النظام بمسافة واضحة ومعلومة للرأي العام.
ينبغي التأكيد على أن مقال مجدي أحمد حسين كان يعد مقالاً جريئاً بمعايير ذلك الزمان، لأن سمير رجب كان قد تحول بحكم الحديث الشائع عن علاقته الخاصة بمبارك إلى تابوه يخشى الكثيرون من مهاجمته بشكل مباشر، وكان هذا واضحاً في طريقة تعامل الرقابة على المطبوعات مع ما كتبته عنه في صحيفة (الدستور) سنة 1997، حين كانت لا تزال تخضع للرقابة بوصفها مطبوعة حاصلة على ترخيص قبرصي، في نفس الوقت الذي كان نظام مبارك يتباهى فيه ليل نهار بأنه النظام الذي أطلق حرية الصحافة وألغى الرقابة على الفكر والرأي، "ولم يقصف في عهده قلم ولم تصادر صحيفة"، فقد تشدد الرقيب في حذف كثير مما كتبته عن سمير رجب، في حين لم يتشدد بنفس القدر في التعامل مع ما كتبته عن غيره من كُتّاب النظام، ولم يكن هناك أي بديل لكي تسمح الرقابة بتمرير أي انتقاد لسمير رجب، إلا لو اتبع نفس منهج مجدي أحمد حسين في التأكيد على ضرورة أن يكون هناك مسافة بين النظام الحاكم وبين سمير رجب، والتأكيد على أن سمير رجب لا يمكن أن يكون خير معبر عن النظام، والإشارة إلى أن النظام حرص على أن يبعد نفسه عن سمير رجب حين طلب منه أن ينسحب من انتخابات نادي الشمس، ثم رفض طلبه بأن يترشح كنقيب للصحفيين، وفضل أن يختار بدلاً منه مكرم محمد أحمد، ومع ذلك كله فقد تم حذف بعض فقرات المقال، لأضطر إلى أن أكتب في خاتمته: "ما الذي يمكن أن يقال عن سمير رجب سوى ما يكتبه سمير رجب نفسه عن نفسه، فهو وحده الذي يمكن أن يوفي نفسه حقها ومستحقها، سمير رجب كفيل بنفسه".
كان منطق الرقابة في التشدد مع الهجوم على سمير رجب والتسامح مع الهجوم على غيره مثل إبراهيم سعدة وأنيس منصور، هو نفس المنطق الذي كان يسوقه كثير من رؤساء تحرير الصحف في ذلك الوقت التعيس، لمن يرغبون في مهاجمة سمير رجب من الكتاب والصحفيين، وهو أن الهجوم على سمير رجب سيجلب لهم صداعاً لا لزوم له، لأن لسانه صفيق ولا يتورع عن توجيه الشتائم على صفحات الصحف التي تصدرها دار التحرير، إما عبر ما يكتبه مباشرة أو ما يكتبه من يكلفهم بذلك من الصحفيين والكتاب، لذلك يظل تجاهله التام هو الأفضل والأسلم. لكن ذلك الاستثناء كان يسقط، حين يقوم سمير رجب بالتطاول على من هم أكثر منه حظوة لدى النظام من زملائه، مثل إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير (الأهرام) الذي كان سمير رجب طيلة الوقت طامعاً في مكانه في (الأهرام) وفي مكانه كنقيب للصحفيين، وحين كتب سمير رجب يهاجم إبراهيم نافع ويبشره بقرب الخروج من منصبه، سمح إبراهيم نافع للكاتب محمد زايد بمهاجمة سمير رجب بقوة على صفحات (الأهرام) بشكل قوي لم تعهده "الشقيقة الكبرى" المنضبطة في هذه المساحات من قبل، فكانت النتيجة أن تراجع سمير رجب على الفور، وأدرك أنه لا زال أقل من أن يهدد مكانة إبراهيم نافع لدى النظام، خاصة أن كل من كان يهاجم سمير رجب سواءً من مؤيدي النظام أو معارضيه، كان يحرص على تذكير سمير رجب بماضيه الصحفي المريب، وبأن صعوده إلى مكانه كرئيس لمجلس الإدارة ورئيس التحرير، لم يكن له علاقة بمشوار صحفي مشرف، أو بخبرة مهنية عريضة، كالتي كان يحرص النظام على توفرها فيمن يختارهم لخدمته، وهو ما لم يحدث في حالة سمير رجب، الذي كان تدشيناً لسياسة جديدة يختار بها نظام مبارك لخدمته، الأكثر وقاحة وفُجراً في تأييده، حتى لو لم يكن يمتلك أي مهارات صحفية أو خبرات إعلامية، وهي السياسة التي التزم بها نظام عبد الفتاح السيسي فيما بعد، وجعلها المعيار الوحيد للاختيار فيمن يسمح بتواجدهم على الساحة الصحفية والإعلامية.
كان الدكتور محمد عصفور القانوني المرموق والمعارض البارز قد عبّر عن هذا المعنى خير تعبير في مقال كتبه في صحيفة (الوفد) عام 1993 متحدثاً عن ظاهرة سمير رجب المعجزة، والتي حققها صعوده المثير من موظف في الأرشيف إلى رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة مؤسسة كبيرة، ومن صحفي كان ينقل الخبر بفمه لأنه لا يجيد كتابته، إلى صاحب عمود يومي يعتبر المتحدث بلسان النظام والمنظر لسياساته، وهي رحلة الصعود التي قرر مصطفى بكري أن يتتبعها ويرصدها بالمعلومات والوثائق، بعد صراعه المرير مع سمير رجب، والذي انتهى بنجاح سمير بالإطاحة به من موقعه كمراسل لإذاعة (مونت كارلو) ورئيس لتحرير صحيفة (مصر الفتاة) الحزبية.
يروي مصطفى بكري في كتابه الدور الذي لعبه الكاتب محسن محمد في إطلاق ظاهرة سمير رجب، بعد أن تولى محسن محمد رئاسة مجلس إدارة دار التحرير خلفاً لعبد المنعم الصاوي، بالإضافة إلى كونه من قبل رئيساً لتحرير صحيفة (الجمهورية)، حيث قام محسن بمساعدة سمير رجب على أن يتحول من موظف في الأرشيف لم يدرس الصحافة، بل حصل على ليسانس الآداب قسم تاريخ، إلى مندوب صحفي في مطار القاهرة، وبعد أن حرص سمير على رد الجميل لمحسن باستقباله في كل رحلاته وتقديم خدماته في التسليك والتشهيل مع رجال الجمارك وموظفي المطار الذين حرصوا على أن يحظى محسن محمد باستقبال ووداع حافلين حارين كلما غادر البلاد أو عاد إليها، طلب من محسن أن يخصص له صفحة كاملة بالجمهورية للسياحة والطيران، واعداً بأنها ستكون صفحة إعلانية تأتي بالخير الكثير للمؤسسة، واستجاب محسن لطلبه، وسمح له بكتابة عمود صحفي أسبوعي بدأ فيه ممارسة مواهبه في الغمز واللمز وتوجيه الرسائل التي تهدف لجلب الإعلانات، حامياً نفسه من الملاحظات والانتقادات التي يتعرض لها داخل المؤسسة، بتدبير تذاكر طيران مجانية ورحلات مخفضة من بعض شركات السياحة، لتنجح تلك الجهود في تقريبه أكثر من محسن محمد، في الوقت الذي كان محسن يضطهد فيه صحفيين من أبناء المؤسسة بحجم ومكانة صلاح عيسى، بشكل حكى عنه صلاح عيسى في عدة مقالات له، من أجملها وأكثرها إثارة للضحك المبكي مقالته (سلطة بسكّر) التي نشرها في كتابه الجميل (تباريح جريح).
كما يروي مصطفى بكري نقلاً عن شهادات الكثير من أبناء دار التحرير في تلك الفترة، خصص محسن محمد لسمير رجب مكتباً خاصاً في المؤسسة بالمخالفة للأعراف الصحفية، ثم دفع به بشكل غير رسمي إلى مصاف نواب رئيس التحرير، ليتولى مسئولية السهر والإشراف على العدد اليومي، في حالة غياب واحد من نواب رئيس التحرير الذين كانوا وقتها الصحفيين الكبار: عدلي برسوم ورأفت الخياط وأحمد عبد اللطيف ومحيي الدجوي، ثم تخطى الكثير من مستحقي الترقية وعيّن سمير رجب نائباً لرئيس تحرير العدد الأسبوعي من (الجمهورية)، وبعد أن اشتد صراع أحمد عادل رئيس تحرير صحيفة (المساء) مع محسن محمد، نجح محسن في إقصاء أحمد عادل، وقام بتعيين سمير رجب رئيساً لتحرير (المساء)، وبذل جهوداً كبيرة من أجل إقناع المسئولين بشخص سمير رجب وبولائه للنظام، حتى تم اختيار سمير رجب رئيساً لمجلس إدارة (الجمهورية) بدلاً من محسن محمد بعد أن تخطى محسن السن القانونية للبقاء في منصبه، لكن النظام لم يعط سمير رجب منصب رئيس تحرير (الجمهورية) كما كان يتمنى، بل منحه للكاتب محفوظ الأنصاري، وكان ذلك جزءاً من سياسة نظام مبارك في توزيع الحصص على رجاله بشكل محسوب، لكي يظل كل منهم في حالة شوق إلى المزيد، فيحرص على إثبات ولائه للرئيس والنظام.
كان محسن محمد حريصاً منذ البداية على دعم سمير رجب، ليس إدراكاً منه لمهاراته الصحفية المخبوءة، فقد كان محسن كاتباً بارعاً ويعرف مدى ضحالة سمير رجب وخوائه، لكنه كان يتمنى أن يضع خليفة مخلصاً له في إدارة المؤسسة، يساعده على استمرار مميزاته، خاصة أن النظام كان قد أتاح لمحسن أن يبقى في منصبه لمدة عام إضافي بعد بلوغه السن القانونية للإحالة على المعاش، ولذلك ظن أن دعم صحفي عديم الموهبة مثل سمير رجب، سيساعده على أن يظل متمتعاً بامتيازاته ككاتب وكصحفي قديم بعد خروجه من المنصب الإداري، لكن سمير رجب بدأ مشواره كرئيس مجلس إدارة في الإطاحة بمميزات محسن محمد، في تطبيق كلاسيكي معتبر لنموذج "الندالة" المملوكي، فكان أول قرار اتخذه سمير هو إخلاء مكتب محسن محمد فوراً، ليحتله سمير بنفسه قبل أن يتوسع فيه بعد ذلك، ويحوله إلى مكتب ملوكي صار الأشهر بين مكاتب الصحافة المصرية، ليس لأهمية ما كان يخرج منه من صحافة، بل لارتباطه بوجود (الجاكوزي) في حمامه، منافساً فنادق النجوم السبعة في فخامته وأبهته.
عندما احتج محسن محمد وطلب من سمير رجب أن يعيده إلى مكتبه، قال له سمير إنه يجهز له مكتباً محترماً في مبنى خارج المؤسسة، ثم فاجأه بأنه لن يعينه مستشاراً لمجلس الإدارة كما سبق وأن اتفقا، وقام باستدعاء الحاج بيومي السائق الخاص لمحسن محمد وطلب منه تسليم نفسه لإدارة جراج المؤسسة، ثم استولى على موقع العمود اليومي الذي كان يكتب فيه محسن محمد، ليقوم بتطفيشه سريعاً إلى صحيفة (أخبار اليوم) التي بدأ يكتب فيها كتاباته التاريخية المعتمدة على الوثائق الأجنبية، والتي أصبحت أهم ما قدمه وما يُذكر به لدى الأجيال التالية من القراء، ليتفرغ سمير بعد ذلك للمواجهات المتكررة مع محفوظ الأنصاري، والتي استمرت على مدى سنوات، ووصلت إلى حد أمره ذات مرة بقطع الكهرباء عن المطابع لوقف طباعة (الجمهورية) ما لم يرضخ محفوظ الأنصاري لشروطه.
...
نختم هذه الصفحة الأخيرة من هذه السلسلة غداً بإذن الله.