بعد أن ظهر لأول مرة عام 1899 في الأستانة، تعيد "دار الفرجاني للنشر" إصدار كتاب "المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب" لمؤلفه أحمد بك النائب الأنصاري (1848 - 1918).
يعدّ العمل من أهم المصادر التي يرجع إليها المؤرخون المعاصرون حين يتصدّون إلى دراسة العهود الإسلامية في ليبيا.
يتطرّق الأنصاري في كتابه إلى أبرز الحوادث التي عاشتها المدينة، بداية من زمن النبوّة وصولاً إلى الحقبة العثمانية في مستهل القرن العشرين. ومن خلال هذا العرض، يترجم الكِتاب لعدد كبير من الشخصيات السياسية والعلمية التي مرّت أو عاشت في طرابلس.
لا يكتفي العمل بالحديث عن طرابلس وحدها، فمدن ليبية أخرى حاضرة كامتداد لها من خلال تتبّعه لسِيَر الولاة والصوفيين وعلماء الدين واللغة.
يأتي وصف المدن قريباً مما نجده في كتب تاريخية أقدم، فمثلاً يكتب عن برقة: "قال المؤرخ الشيخ محمد البشاري في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: برقة قصبة جليلة عامرة نفيسة، كثيرة الفواكه والخيرات والعسل، مع يسار، وهي ثغر قد أحاطت بها جبال عامرة، ذات مزارع على نصف مرحلة من البحر، في هوية، قد أحاطت بها تربة حمراء، شربهم من آبار، وما يحوونه من أمطار في جباب. وهم على جادة أهل مصر، يحنّون إلى الغرباء، وتُحمل من برقة ثياب الصوف والأكسية".
كان مؤلف الكِتاب واحداً من أبرز أعيان طرابلس المعروفين عربياً، كما كان صاحبَ حظوة في البلاط العثماني الذي كان يدير ليبيا فعلياً. في وقت من الأوقات، وفي عهد السلطان عبد الحميد، عُيّن نائباً (وسيطاً بين الباب العالي وطرابلس) ومن هنا أخذ اللقب الذي يحمله.
يمكننا القول، إن زيارة القادم إلى طرابلس لا تكتمل إذا لم يمرّ بدار أحمد النائب الأنصاري، في المدينة القديمة، هناك يمكن الاطلاع على مخطوطات وصور نادرة لتلك الحقبة، حيث كان للمؤرخ صالون أدبي يرتاده الشعراء والمثقفون في طرابلس، وهو كذلك شاعر، نجد الكثير من أبياته مبعثرة في ثنايا عرضه التاريخي.
يضيء الكتاب أيضاً ملامح من الحياة الاجتماعية. لقد كان الأنصاري منتبهاً للتحوّلات التي ستنجرّ عن أحداث مثل توصيل خطوط البرق وفتح مكاتب البريد. لا يخلو هذا الاهتمام من دلالات فهو يوثّق لإنجازات الإدارة العثمانية، لكن الأنصاري لا يقف هنا.
يبدو أنه قد فهم أن التاريخ السياسي أبعد من تسجيل حياة كل من حكم طرابلس، وكيف وصل إلى الحكم. لذلك فهو يخوض مثلاً في تفاصيل نظام الجباية الذي يلخّص طريقة حكم البلاد.
إن الأنصاري يكشف، وإن لم يتطرّق إلى ذلك صراحة، الواقع البائس لليبيين زمن سطوة العثمانيين بمجرّد رصده الدقيق للأحداث، ما يتضمّن المظالم التي تعرّض الليبيون لها من قبل باشوات الأتراك، وكيف سيطر هؤلاء باستخدامهم للشيوخ والأعيان ثم الغدر بهم إذا لزم الأمر.
يقول المؤرخ الطاهر الزاوي: "إن الصورة التي كانت عليها ليبيا في العهد التركي؛ صورة الفوضى والاستبداد بالشعب الليبي وإهمال مصالحه، تلك الصورة التي فهمتها أنا وفهمها غيري من "المنهل العذب"، كانت صورة مفزعة كئيبة، تمثّل ليبيا في ذلك العهد تمثيلاً صحيحاً، وأنا أعتقد أنها كانت تمثّل ذلك الانحلال الذي طوّح بالدولة العثمانية إلى الهاوية".
ويقول ناشر الكِتاب هشام الفرجاني: "رغم أن العمل قديم جداً، حيث طُبع في تركيا عام 1899 ثم في مصر عام 1961، إلا أنّ مادته ما تزال متداولة في كتب أخرى، ولا يخلو كِتاب عن تاريخ ليبيا من معلومات استقاها من "المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب"، ومن هنا رأينا أن نعيد طبعه أو بالأحرى نعيد طبع مصدر المعلومات المتداولة في الكتب الأخرى كي نوفّر للقارئ والباحث المعلومة من مصدرها الأم".