ما لكم كيف تحكمون؟ (1)

02 نوفمبر 2018
+ الخط -
حينما عزمت أن أعيد مرحلة الليسانس وأضيف إلى رصيدي المعرفي، أو بالأحرى أرسم حياتي العلمية من جديد في عامي الثاني بأوروبا، بعد دراستي العام الأول في قسم التاريخ كانت حصيلته دراسة ميدانية مقارنة عن العلمانية في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا، كانت بعدها الفلسفة في جامعة لاسوربون واحد، هي الاختيار الذي قادني إليه القدر.

أذكر جيداً وقتها موقف أحد المسؤولين الإداريين الذين كانوا يعملون معنا، حين فوجئ وأنكر عليّ ذلك، ثم قال لي ماذا تفعل بالفلسفة؟ ونحن في فرنسا بلد الكفر، وتكوينك في بداية حياتك كان شرعياً إسلامياً، سيدرّسونك الكفر والإلحاد وأن المسيح ابن الله بل إن الله غير موجود تماماً وذلك ديدنهم. ثم لماذا لا تناقش رسالتك وتكمل الدكتوراه في تخصصك الأصلي أفضل لك وأقوم، أنت بهذا لن تتقدم خطوة؟! هذه نصيحة مني إليك حتى تستثمر جهدك ووقتك... وهو، بين قوسين، ممن مكثوا في بلد يعيش ويعمل ويتعامل فيه قرابة عشرين عاماً لا يجيد لغته لحد الآن، ولم يحصّل شهادة واحدة تشفع له سنوات عمره التي قضاها هنا وأغلق القوس.

قلت له وقتها: صدقني أنا الآن في منتصف العام الدراسي وأوشك على نهاية السداسي الأول، لم أدرس لحد الآن عن الله ولا عما تقول، ولم يطلب منا أحد أن نكفر بالله وأن نعبد غيره، ولم يكلمونا عن الدين إلا نادراً في سياقه التاريخي والفلسفي. صحيح أننا درسنا عن بلاتون وأرسطو وسقراط، ولم يشر أحد إلى ابن رشد عمدة الفلسفة في الغرب، وابن سينا الرئيس والفارابي المعلم الثاني، الذي شرح المنطق الأرسطي، ولا عن ابن مسكويه وابن الخمار الذي يلقب بـ"أبقراط الثاني"، ولا إلى فلاسفة المسلمين الذين كانوا همزة الوسط بين الإغريق وفلسفة الأنوار وعصر النهضة الأوروبية، لكن في الوقت ذاته لا أحد يتحدث عن الإسلام لا بخير ولا بشر إلا عرضاً اقتضاءً لسياق التاريخ أحياناً، وهذا لا ينفي وجود ما ذكرت ولو تشكيكاً وتدليساً في الدراسات العربية وما يسمى: "الإسلامولوجيا"، وفي كتابات ومناهج المستشرقين، وخاصة الذين احتككت بهم ودرّست عنهم قبل أن أدرس على أيديهم... ثم قلت في نفسي لا تخف لا أحد يستطيع تضليلك، فلدي عقل يميز ويدرك، وأحاول على الأقل من خلاله أن أفهم، لا أن أسلم بكل ما يقال لي من الجانبين.

بعدما أتممت شهادة الفلسفة وحصلت عليها، ورأيت كيف فتحت لي أفقاً جديداً، أدركت حينها أنني نجوت، إذ لم أتبعه في ما قال.


تخصصاتي السابقة أفادتني كثيراً في معرفة الشخصيات والمؤلفات التراثية، وعلمتني أدوات وآليات دراسة العلوم المنقولة، لكنها لم تعلمني كثيراً الغوص في عمق النص ولا المنهجية العلمية السليمة التي تعملتها لاحقاً على يد الغربيين وخاصة الفرنسيين، فقد كانت أغلب تخصصاتي الإنسانية والاجتماعية ولا سيما الإسلامية وما يتعلق بالدين، كان أغلبها قائماً على أساس التسليم دون نقاش والتبجيل دون تعليل، لأن العقيدة هي التي تحركها، وهو ما يخالف العقيدة أساساً؛ هذه العقيدة التي جاءت لتبطل قاعدة "اعتقد ولا تنتقد". ومهما أكدت أنّ عقيدتي راسخة بما أؤمن وإيماني بما أعتقد يقيني، لا بد من الفصل بين البحث العلمي والاعتقاد، وحتى لا يساء فهم كلامي ويحمل محمل الكفر، أقصد بذلك ألا قداسة ولا فوقية لشارح النص ومؤوّله ولكلام البشر، الذي جعلناه غالباً في دراساتنا التراثية ومناهجنا العلمية، أكثر قدسية من كلام صاحب النص، وهو الإله الذي نعتقد بأزليته وسرمديته وتفرده.

وسط كل هذا أتساءل ربطاً بنصيحة صاحبنا، وهل ثمة كفر أكبر من تكفير ابن عربي، وابن رشد الحفيد، وشمس الدين التبريزي؟

هل ثمة كفر أكبر من التنكيل بالحسين بن منصور الحلاج، الذي تمت محاكمته فضرب ألف سوط وتم تقطيعه إرباً إرباً وفصل رأسه ورجلاه وعلقت جميعاً على سور الجسر الجديد ثم أحرقت جثته، ما لا أفهم منه إلا أن هؤلاء أرادوا أن يحلوا محلّ الله في محاسبة خلقه "وما ينبغي لهم وما يستطيعون"! وهنا نحن لا نتحدث عن الوهابيين ولا الجماعات المنشقة عن الأمة بمغالاتها، المشتهرة بشذوذها الفكري، بل من يكفرون ويحاكمون هم من جموع الأمة العاديين بتعبير بسيط، وما يصطلح عليهم عند العلماء: أهل السنة والجماعة. طبعاً مع تفاوت درجات الحكم على أولئك المتهمين إما بالزندقة أو بالكفر - حسب روايات تاريخية وشهادات لا يعلم مدى صدقها - إلا أنّ محاكمتهم بهذا الشكل خروج عن النص "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 29) ومخالفة للعقيدة التي يدافع عنها أصحابها كما يزعمون، ومحاولة لتعطيل النص، لأنه بعد التخيير بَيَّن ترتيب العقوبة في الآخرة "إنا أعتدنا للظالمين ناراً"، وحتى القرآن لم يسمهم كافرين بعد قوله "ومن شاء فليكفر"، باعتبار أنّه ظلم للنفس قبل كل شيء، ظلم للنفس في معرفة خالقها، ولا يتعلق بحقوق العباد ولا يضيف لهم أو ينقص منهم شيئاً، وحين بيّن العقوبة لم يستعجل تحقيقها في الدنيا كي يترك فرصة للتائه أن يعود، إن كان كذلك فعلاً كما يدّعون دون فهم. فيما لا يوجد أحد أوقف خرافات ودسائس المنتسبين للمشيخة، المتصدرين للتراث المستميتين دفاعاً عن الغثّ فيه، ما ملؤه مخالف للنص القطعي، لا أحد يحاكم الذين ملؤوا الدنيا بشعوذتهم قروناً طويلة، وقزموا عقولنا وحدّوا من درجة وعينا وقيدوا فكرنا وحجروا عليه ... "فما لكم كيف تحكمون".

فالأولى إذن محاكمة أولئك الذين ما فتئوا يلبّسون على العقول والبصائر قروناً طويلة ولا يزالون لحد اليوم، مخالفين دعوة القرآن إلى إعمال العقل لا مناقضته وإلى التفكير لا التكفير.

...يُتبَع

دلالات