رواسب الذاكرة... نحن والآخر

28 مايو 2018
+ الخط -
فتحنا أعيننا صغارا في مجتمع منهزم منكسر يعيش بعقدة المغلوب، أكثر ما سمعته يتردد على الأسماع بانبهار شديد يعبر عن الروعة والإتقان ونفي المثيل.

Les biens vacants وهي المنازل الشاغرة التي كان يسكنها "الفرنسيس"، ثم فروا منها خارج البلاد وتركوها بلا مالك، من دون أن تباع أو تؤجر، فهجم على معظمها الأهالي أو سكان المنطقة بعد استقلال الجزائر.

ففي مسقط رأسي مثلا كانوا حينما يتحدثون عن فلان الذي يسكن في منزل من Les biens vacants، كنا نتخيله أفضل ما وجد على وجه الأرض، وحينما تصطحبنا أمهاتنا أو جداتنا إلى بيت من بيوت أحد أقاربنا من العائلة وندخله ضيوفا فإنه يوم فرح وعيد لنا ونتمنى لو أقمنا فيه طويلا، ذاك الذي نرى فيه السقف المرتفع ثلاثة أمتار والشبابيك الطويلة بمقابض حديدية فاخرة، والمدخنة الرخامية.


La cheminée en marbre (الموقد الرخامي) وما إلى ذلك مما كان يصنع دهشتنا، واستمر معنا الأمر طويلا، لاسيما أن التاريخ الذي قرأناه كان تاريخا استعماريا، وإن تحدث عن بطولات أجدادنا وثورتنا الجزائرية المجيدة، فإنه يمجد المحتل الفرنسي بشكل أو بآخر، خاصة إذا تعلق الأمر بالمنجزات المعمارية والملامح الحضارية لبلادنا.

فلما فُطمنا فكريا وشب معنا الفضول المعرفي والثقافي بدأنا نقرأ ونسمع أن فرنسا ليست أم الحضارات ولا صانعة المعجزات، وأن معظم ما تفخر وتتباهى به أمام الشعوب، منقول أو مقلد أو موروث، ومن ضمنه موروث أجدادنا عبر التاريخ قبل النهضة الأوروبية وعصر الأنوار، فبدأنا ندرك أن ليس كل ما قرأناه يعد حقيقة مسلما بها، وبدأت صورة فرنسا المثالية التي كانت في أعيننا صغارا، تتراجع في مخيالنا أمام الآلة الألمانية والساعة السويسرية مثلا، ثم تواصل ذلك إلى أن بدأنا نسافر ونرى العالم وبدأت تتسع دائرة بحثنا فامتدت معرفتنا خارج المقرر السياسي المعلم أو العلمي المسيس، لا أعرف أيهما أدق، واكتشفنا أن:

بيوت Les biens vacants الهشة الآيلة للسقوط كونها تخلو من السواري والأعمدة وما يرفع بنيانها، وتفتقد أبسط مواصفات الهندسة المعمارية، اكتشفنا أنها لا تساوي شيئا أمام عظمة الحمراء بغرناطة، المبارك بإشبيلية، والسرور بسرقسطة، ومباني البيازين التي لا تعود إلى القرن التاسع عشر، بل إلى القرون الوسطى ويفوق عمرها الألف عام، ولا تزال مستوية على سوقها!

أدركنا بعدها حجم الكذبة التاريخية التي طالما تداولها آباؤنا وأجدادنا كرها إلى أن صدقتها العقول مع مرور الوقت وصارت طوعا، واليوم صار جيلي الذي ولد في الثمانينيات والجيل الذي يليه على الأقل لا يقرأ التاريخ بل يعيشه ويراه رأي العين، فليس الخبر كالمعاينة، وما كان قديما يمكن إخفاؤه أو المبالغة فيه صار اليوم معاينا مشهودا، فسهلت المقارنة والحكم المنطقي بعين الحاضر.