ما قبل حوار الأديان

08 ديسمبر 2016

من مؤتمر الدوحة الثاني عشر لحوار الأديان (16/2/2016/العربي الجديد)

+ الخط -
نَتَبَيَّن في كثيرٍ مما يُكْتَب ويُتَدَاوَل في الندوات واللقاءات، في موضوع حوار الأديان، أنه يتم، في الأغلب الأعم، تحويل النقاش من موضوع حوار الدين والأديان إلى موضوع حوار وصراع الثقافات والحضارات. يتم ذلك في سياقاتٍ يجري فيها البحث عن كيفيات تجاوُز بُؤَر الصراع التي يتم فيها استخدام الدين في المعارك المشتعلة في مناطق عديدة. فهل يمكن أن ندرج مفهوم حوار الأديان ضمن سلسلة المفاهيم الجديدة التي تُوظَّف لمواجهة صور استخدام الدين في المعارك السائدة في عالمنا؟ هل يمكن أن يوضع كمُرَادِف لمفهوم حوار الحضارات وصراعها؟
يقتضي التفكير في هذا الموضوع العناية، أولاً، بالأسئلة والسياقات المرتبطة به، كما يتطلَّب الاهتمام بالصور النمطية السائدة عن مختلف الديانات، صحيحٌ أن بعض المواقف الناشئة في قلب حوار الأديان اتجهت، أخيراً، إلى الحديث عن مفهومٍ آخر، يثير مشكلاتٍ نظرية عديدة، يتعلق الأمر بما يسمى الأمن الروحي، أو إشباع حاجات المجتمعات البشرية إلى خلاصٍ روحي، باعتبار أن هذا الخلاص يُجَنِّب البشر كثيراً من النتائج المترتِّبة عن استفحال النزوعات المادية، في عالم يزداد تنميطاً وتَعَوْلُماً.
نتصوَّر أن موضوع الحوار بين الأديان مجرد أفقٍ في النظر، ونفترض أنه ينفتح على تصوُّراتٍ متنوِّعة، حيث يُواجه فيه المتحاورون جوانب من إشكالات عصرنا في السياسة والحرب والأخلاق، وهو يمتلك في الراهن الكوني أهمية خاصة، بحكم أن كثيراً من بؤر الصراع القائمة هنا وهناك، توظّف، بصورةٍ أو بأخرى، عناصر من الموروث الديني، لتؤجج بواسطته صور الجحيم في مناطق عديدة.
ولا بد من التوضيح هنا أننا عندما نتحدّث عن الحوار كأفق، فإننا نقصد بذلك أن الحوار
المطلوب كما تصوَّره يقوم على مبدأ كبير، يتمثل في لزوم الاعتراف بوحدة الأديان، ولزوم الإقرار في ضوء ذلك، بمناهضة مختلف أوجه التَّعَصُّب والتمييز على أساس الدين والعقيدة والطائفة. يرتبط محتوى الأفق، في تصوُّرِنا، بمسألة البحث عن كيفية توطين قِيَم التنوير والاعتراف المتبادل، ومختلف فضائل التسامح ومزاياه في ثقافتنا.
يجعلنا تزايد مظاهر التطرف في مجتمعاتنا، وقد ساهمت جملةٌ من العوامل في توليدها، نتصوّر أن معارك مواجهتها ينبغي أن تكون متنوعةً بتنوع الأدوار التي تمارسها اليوم في واقعنا. وكلما ازداد عنف هذه المظاهر، في محيطنا الاجتماعي والسياسي، ازدادت الحاجة إلى تطوير آليات المواجهة ووسائلها، بهدف توسيع مساحات التنوير والتسامح، والانفتاح في ثقافتنا ومجتمعنا، الأمر الذي يقلص، متى تَمَّ تَعميمُه، من أدوار التطرُّف والمغالاة، ويَحُدُّ من أدوار بعض الفقهاء الذين يمنحون أنفسهم امتيازات الكهنوت، وامتيازات مانحي صكوك الغفران، وذلك بإصدارهم فتاوى التكفير والجهاد ومُخَاصَمَة العالم.
لهذا السبب، ترجع عودة المحفوظات التقليدية، بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، إلى عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا. ويعدُّ فشل مشاريع الإصلاح الديني والإصلاح التربوي في فكرنا من بين العوامل التي كرّست وتكرس مثل هذه العودات العنيفة إلى المعطيات العتيقة في تراثنا.
إن أفق الحوار المنتظر موضوعه الذات، أوهام الذات وأوهام التاريخ التي يصنعها البشر، ثم يتعلمون بعد ذلك لزوم مواجهتها والتخلص منها. وينجح الواحد منا في الحوار مع الآخرين، عندما يُنهي حواره مع معاركه القائمة مع ذاته. وتتضح هذه المسألة، عندما نكون على بيِّنةٍ أن الآخر أنجز كثيراً من الحوار مع موروثه الديني، وأعاد تشكيل ذاته وتراثه في ضوء تحوُّلات المعرفة والتاريخ، الأمر الذي لم يُنجز بعد في حاضرنا.
نفكّر في مشروع إتمام مشروع حوارنا الذاتي مع موروثنا الديني، بهدف تملُّكه مجدّداً ضمن
متطلبات عالم جديد، لنهيئ أنفسنا لاحقاً لحوارٍ مع الآخرين في موضوع العودات المستجدة إلى الدين في عالم متغيِّر. ويطرح مشكل تنامي إسلام التطرف في واقعنا مطلب المواجهة بالتنوير والنقد، حيث لا يمكن أن تُحَوِّلَ جماعاتٌ معينةٌ التجربة الروحية في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجرة مغلقة.
يحصل الحوار بين معتنقي الأديان، عندما يحصل تشبُّع المجتمعات بقيم الأنوار، كما تبلورت في التاريخ. تتمثل المهمة المستعجلة في سياق ما نحن بصدده في إنجاز كل جماعةٍ عمليات إعادة تملُّك روح عقائدها ومعتقداتها، في ضوء المكاسب والمنجزات المعرفية الحاصلة في التاريخ، وأبرز هذه المكاسب منجزات الأنوار في النظر إلى الإنسان والطبيعة والعقل والتاريخ. وأي حديثٍ عن الحوار في غياب تمثُّل قيم العقل والتسامح وفضائل التآزر والعيش المشترك، يُعَدُّ مجرد ضرب من الضّلال.
نزداد تأكّداً من الخطوات التي رسمنا، عندما نعرف أن الحوار بين الأديان يتجه اليوم إلى العناية بموضوع العدالة والتضامُن، وموضوع التفكير في حل النزاعات بين الشعوب والأمم، الأمر الذي ساهم ويساهم في منح دلالاتٍ جديدة لأفق الحوار بين الأديان.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".