ما بعد قايد صالح: علاقة الجيش والرئاسة أمام الامتحان

26 ديسمبر 2019
أمام تبون فرصة للمناورة سياسياً (رياض كرامدي/ فرانس برس)
+ الخط -
جاءت وفاة قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، الذي شيّع أمس في جنازة مهيبة، لتربك المشهد في الجزائر، لا سيما أنها أتت مع بداية تسلم الرئيس عبد المجيد تبون مهامه. مع العلم أنه كان يرغب في الاستناد، خلال الفترة الأولى من رئاسته، إلى قائد الجيش الراحل لترتيب تصوراته السياسية، لا سيما أن الأزمة في البلاد مستمرة مع تواصل الحراك الشعبي.

وتبرز تساؤلات عن طبيعة العلاقة التي سترتسم في الأفق بين تبون والجيش، على ضوء المتغيرات الجديدة في أعلى هرم المؤسسة العسكرية من جهة، وما إذا كانت ستحفز الشارع والوسط السياسي للدفع باتجاه استبعاد الجيش من الهيمنة على الحكم والتأثير في التوجهات بعد انتخابات 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. ويراقب الحراك الشعبي، الذي يمثل في الوقت الحالي القوة الضاغطة لاستبعاد الجيش عن السياسة، تطور المشهد في ظل غياب قايد صالح الذي هيمن على المشهد الداخلي لأكثر من تسعة أشهر. ويدرك الحراك، كما باقي الجزائريين، أن البلاد تدخل في مرحلة سياسية مختلفة، في معطياتها الأطراف الرئيسية الفاعلة فيها، عن كل المراحل السابقة، في ظل تغير كامل للشخصيات المؤثرة في المشهد، بعد انتخاب رئيس جديد، والترقب للحكومة الجديدة.

والمؤشر الأهم لملامح المرحلة الجديدة يتعلق بموقف الجيش من الشأن السياسي، وطبيعة الدور الذي سيؤديه، والموقع الذي سيشغله في منظومة الحكم، بعد ستة عقود ظل فيها الحاكم الفعلي والصانع الأبرز للقرارات والخيارات الكبرى.
ويرصد الحراك المسافة الفاصلة بين القيادة الجديدة للجيش وجهاز الاستخبارات وتبون، خصوصاً أن الحراك يتخذ من استبعاد الجيش من خلفية السلطة وإبعاد الجنرالات من خلف ستار الرئاسة والحكومة أكبر عنوان للمطلب الديمقراطي، وأهم عامل للتغيير السياسي في البلاد، عبر شعار ظل يتردد في التظاهرات منذ 44 جمعة "دولة مدنية وليس عسكرية".

ويبدو الرئيس الجديد، على خلفية التطور المفاجئ المتمثل في رحيل قايد صالح، وتقاطع التقارير التي تشير إلى تحمس قائد الأركان الجديد اللواء سعيد شنقريحة لفصل الجيش عن المشهد السياسي، أمام فرصة أكبر لطرح خطة سياسية تقدمية تتضمن المطالب الديمقراطية للحراك الشعبي وعموم الجزائريين. لكن المخاوف مستمرة من أن يكون افتقار تبون إلى تصور واضح إزاء القضايا السياسية، المحلية والإقليمية الكبرى، لكون مساره في الدولة ظل محصوراً في قطاعات تقنية واقتصادية، وتركيزه خطاباته خلال الحملة الانتخابية وفي خطاب اليمين الدستوري على الشق الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك افتقاره إلى حزام سياسي وحزبي، الدافع الأبرز لإمكانية تجديد التحالف بين الرئاسة والجيش.




ولا يتوقع الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر، توفيق بوقاعدة، تغييراً كبيراً في طبيعة العلاقة بين تبون والمؤسسة العسكرية، حتى مع وجود فاعل عسكري جديد، يتمثل في قائد الأركان الجديد اللواء سعيد شنقريحة. وقال بوقاعدة، لـ"العربي الجديد"، إن "العلاقة بين تبون والمؤسسة العسكرية ستستمر كما كانت قبل وفاة قايد صالح، وإن التنسيق بين المؤسستين سيتواصل لمعالجة الملفات العالقة وفق الرؤية السابقة. وبرأيه، "ربما ستتم مراجعة بعض الآليات في التعامل مع الأزمة السياسية". لكن بوقاعدة أعرب عن اعتقاده بأن الرئيس يملك الآن فرصة ومساحة أكبر للمناورة، لاعتبارين أساسيين، الأول رحيل قائد الأركان، الذي دعم تبون منذ 2017 ووفر له الحماية حينها بعد خلافه مع "الكارتل" المالي وإزاحته من رئاسة الحكومة، وساهم في بلوغه سدة الحكم ومنع المجموعات الإدارية المتدخلة في العملية الانتخابية وشخصيات عسكرية من تسيير الانتخابات الرئاسية ضده. وبالإضافة إلى ذلك، توقف بوقاعدة عند حقيقة أن "قائد الأركان بالنيابة ليس له خلفية سياسية كما يعرف عنه، وبالتالي سيسحب الكثير من الأدوار التي كانت المؤسسة العسكرية تقوم بها في المرحلة السابقة".


في المقابل تذهب مواقف وتحليلات أخرى في سياق معاكس، معتبرة أن الفرصة الوحيدة التي كانت متاحة لإنجاز استبعاد عملي للجيش من التأثير على قرارات الرئيس كانت في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي بدأ حكمه بتحدٍ، حين قال إنه لن يقبل أن يكون ربع رئيس. ويعتقد عدد من المتابعين لتطورات الشأن السياسي أن المؤسسة العسكرية انسحبت نسبياً في عهد بوتفليقة من صناعة القرارات الكبرى، لكنها تحملت في المقابل كل المآلات الكارثية التي انتهت إليها سياسات الرئيس المستقيل، وهو ما قد لا يتيح لها التفكير مجدداً في إبعاد يدها عن الحكم أو تجنب الوقوف خلف الرئيس. كما أن هذا الأمر يدفعها إلى التمسك أكثر بالسلطة والشراكة والتدخل بطرق مختلفة في القرارات المستقبلية للرئيس، خصوصاً أن مساهمتها السياسية في حل الأزمة، ووضع البلاد على سكة الحل الدستوري، وإنجاز الانتخابات بدون أية كلفة أو خسائر تذكر، ودورها البارز في مكافحة الفساد وإسناد القضاء لاعتقال شخصيات عسكرية وسياسية ومسؤولين كبار في الدولة وملاحقتهم قضائياً، وإصلاح نسبي لصورتها التي تأثرت بسبب الدموية في أزمة تسعينيات القرن الماضي، كلها عوامل أعادت الجيش الى الحاضنة الشعبية، خصوصاً مع الجنازة الشعبية المهيبة لقايد صالح أمس الأربعاء، وفتحت الباب أمامه لتبرير تدخله غير المباشر في رسم الخيارات المقبلة.

وفي السياق، أعرب الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة سعيدة غربي الجزائر، مولود ولد الصديق، في تصريح لـ"العربي الجديد"، عن اعتقاده أن "تبون لن يخرج عن عباءة العسكر، فهم من رافق العملية (الانتخابية)، بل هم من اختاره"، على حد قوله. وفيما أشار إلى وجود "تلازم إيجابي بين أطراف الحكم، ما يمكنهم من أحداث مفارقة تاريخية"، أعرب عن اعتقاده أن ما سمّاه "الغرف السوداء الحاكمة ستستمر في نفس التوجه مع ترك هامش لتبون للتحرك في أطر معينة". واعتبر أن "التاريخ السياسي للجزائر، واستقراء مختلف المحطات الفاصلة، يؤكد أن تغير الأشخاص والقيادات العسكرية لم يكن له أي تأثير على العلاقة بين الجيش والرئاسة، أو تخفيف قبضة العسكر على الحكم وصياغة القرارات السياسية الكبيرة والاقتصادية حتى". وأكد أن "المؤسسة العسكرية الجزائرية تتميّز بصفتين، هما الاستقلالية الذاتية والقيادة الجماعية. وعلى مدار الستين سنة الماضية، لم يكن للشخص دور بارز في تحديد المسارات الكبرى، إذ كانت القرارات تتخذ جماعياً. والفرق الوحيد يكمن فقط من حيث اللين أو الحدة، وهو ما ظهر واضحاً بين فترة التسعينيات من القرن الماضي وحالياً".