ما بعد سقوط الكومبين (1)

04 سبتمبر 2019
+ الخط -
لم تكن شقةً، بل كانت شَقّاً، ومثيلاتها من الشقق التعيسة اللواتي تضطر إليهن في ساعة زنقة وأيام قلة حيلة، لا يمكن أن يدلك عليها سمسار مهما كان وطوّ أتعابه وانحطاط أخلاقه، لأن قبولك بها يضعك في فئة دنيئة من الزبائن، لا يحب السماسرة التعامل معها أبداً، لذلك تصل إلى شقق مثل تلك الشقة/الشق عبر صديق مجدَع، يعلم كيف أخنى عليك الدهر، فلم تعد تجد حتى عمولة سمسار محترم، فضلاً عن إيجار شقة معتبرة، ولذلك يتطوع لإقالتك من عثرتك، ويدلك على شقة تقضي الغرض وخلاص، وليس عليك إلا أن تقبل بها، وتشكر الرزاق على ما رزق.

كنت قد عرفت حسن شريكي فيها، عن طريق نسيبه محمود الصعيدي، الذي كان مؤمن الفيومي سبباً في تعرفي عليه بالصدفة، وكنت قد عرفت مؤمن أصلاً عن طريق عمرو "فلنّكة"، الذي عرّفني عليه ناجي عوض، ولم تكن تلك اللفّة غريبة، فهكذا تعمل الأشياء على الدوام، لكن الغريب والمؤسف هو أنني سكنت تلك الشقة التعيسة، على أساس أنني سأكون شريكاً للأستاذ حسن مدرس الرياضيات، فإذا بي أكتشف بعد أقل من شهر أنني استُدرجت إلى الشقة، لأكون شريكاً لأم حسن وجليساً لها خلال فترة سفر ابنها حسن إلى خارج البلاد، بعد أن عرف حسن من محمود أنني في أمس الحاجة وبشكل عاجل إلى مطرح للسكن، بعد أن طردت أنا ومؤمن من شقتنا التي كنا نسكنها في أحد زواريق شارع المحطة بالجيزة.

جايّ لك أنا في الكلام، وسأحكي لك طبعاً كيف عرفت محمود الصعيدي وأخته رانيا التي وعهد الله كنت أعاملها كأختي، منذ أن عرفت أنها يتيمة وغلبانة في عقلها، لكن يعني أنت تعرف أن وساخة الناس ليس لها أول من آخر، ولذلك لا يفترضون أن أحداً يمكن أن يعامل غيره بما يرضي الله، سأحكي لك أيضاً عن عمرو النوبي الذي دخلت بيته في بولاق الدكرور مع "الواد ناجي" الذي صَعُب عليه ما عشته من معاناة في شقة أم ميمي وشعراوي الزِناوي، فعرفني على صديقه الحميم عمرو الذي استقبلني أحسن استقبال، وشالتني أمه "الست اللي زي العسل" على كفوف الراحة، ومثل كل أصدقائه الحميمين أصبحت أناديه بعد وقت قصير بـ "عمرو فلنّكة"، اسم شهرته الذي اكتسبه من "فَلَنكات" السكة الحديد التي كان بيتهم يطل عليها، وكان بارعاً في ألعاب المخاطرة على الفلنكات مع اقتراب القطار، سأحكي لك طبعاً عن مؤمن الفيومي والست أم زوزو وشباب أسوان الذين جاورتهم أنا ومؤمن في سكنى السطوح في تلك الغرفة التي لا سقف لها، والتي قضينا فيها أوسخ شهور شتاء يمكن أن تمر عليك، لكن دعني أحكي لك أولاً عن اللحظة التي قررت فيها الحاجة أم عادل صاحبة العمارة طردنا من شقتنا الكائنة في الدور الأول، والتي لم يكن يخطر ببالي أنها ستكون "أمَلَة" مقارنة بشقة ياسر الذي مات وأنا أعتقد أن اسمه حسن.


كان ذلك بعد واقعة "الكومبليزون" الذي وقع من حبال غسيل الحاجة أم عادل التي تسكن الشقة التي فوقنا مباشرة، على بلكونة غرفة مؤمن الذي كان قد سافر إلى بلدته ليلتها في مشوار عائلي عاجل، وترك غرفته لبعض أقاربه، الذين أساؤوا للأسف التعامل مع الكومبليزون الذي هبط عليهم، فظنّوه هدية من السماء ليس لها أهل يسألون عليها، وتناوبوا عليه في ظروف لا أنصحك بطلب تفاصيلها، ولا أمنعك من تخيلها، ولذلك تعذّرت إعادته إلى أم عادل، حين أرسلت في طلبه ظهر اليوم التالي.

أنا أصلاً لم أفهم ما قصده ابنها الصغير عصام، حين قال لي بصوت يملؤه الإحراج: "معلهش، في كومبين وقع عندكم امبارح، ماما بعثتني أجيبه"، لم أكن قد سمعت بلفظ "الكومبين" من قبل، وحين قلت له إنني لم أفهم ما يتحدث عنه، قال لي بعصبية: "كومبين.. كومبين.. كومبليزون يعني.. قطعة ملابس داخلية"، مع أنني كنت قد فهمت قصده بمجرد أن استخدم مفردة "الكومبليزون" الأكثر شيوعاً، وبالطبع لم يكن الوقت مناسباً لكي أسأله عن مفردة "الكومبين"، وكيف ومتى ظهرت كبديل عن مفردة "الكومبليزون"، خاصة أنها تبدو قريبة من مفردة "كومبينيشن" المستخدمة في السباكة والأدوات الصحية، لم أكن أعرف وقتها أن البعض يطلقون عليه "كومبيه" ويعتبرون أن نطق النون "فِلح" يستوجب السخرية، لم يكن من المناسب أيضاً أن أحدث عصام عن مفردة أخرى أكثر غرابة تستخدم لوصف ما جاء من أجله، هي "الشلحة" التي سمعتها لأول مرة من جدتي، وهي تستنكر خروج جارتنا التي تسكن في العمارة المقابلة إلى البلكونة "وهي لابسة الشلحة"، ولم يتح لي أن أفهم منها أكثر، من أين جاءت تلك المفردة الغريبة التي عرفت فيما بعد للمفارقة أنها تطلق في بعض الدول العربية على العباءة التي تلبسها النساء عند خروجهن من بيوتهن.

لم يكن المقام يتسع لحوار شيق كهذا، خصوصاً أنني لم أكن أعرف وقتها نصف ما ذكرته لك الآن، لذلك طلبت من عصام أن يمنحني فرصة حتى يعود مؤمن من شغله الذي ذهب إليه "من برّه برّه"، لأني لا أستطيع دخول غرفته التي أغلقها أقاربه بالمفتاح بعد رحيلهم، وإلا لكنت دخلت إليها وأحضرت "الكومبين" من البلكونة. بدت معلومة أن مؤمن يغلق عليه باب غرفته بالقفل مفاجئة لعصام، لأنني حين أجّرت الشقة أنا ومؤمن من الحاجة أم عادل، اضطررنا لإخبارها بأننا أولاد خالة، لأننا قدّرنا أنها لم تكن ستتفهم فكرة أنني لم أكن قابلت مؤمن في حياتي إلا مرتين فقط في بيت عمرو فلنّكة، فأصحاب الشقق يقلقون من فكرة تسكين غرباء في شققهم، لأن ذلك يعني مضاعفة للمشاكل، ولذلك ارتاحت الحاجة أم عادل لفكرة تسكين شقتها لقريبين، أحدهما مدرس والآخر طالب جامعي.

بدأت في التحضير لكذبة مقنعة تفسر لعصام سر وجود قفل على باب غرفة "ابن خالتي"، لكن ارتباكه بسبب اضطراره كذكر بالغ عاقل للسؤال عن قطعة ملابس داخلية حريمي تخص أحداً من حريمه، لم يدفعه لسؤالي عن تفاصيل القفل والإقفال، مفضلاً أن يسألني عن موعد رجوع مؤمن من الشغل، فطمأنته أنه لن يتأخر عن التاسعة مساءً في أقصى تقدير، ولأنني شعرت أن فكرة الصعود بالكومبين إلى شقة الحاجة أم عادل لن تكون وجيهة، خاصة أنني لا أعرف لمن الكومبين أصلاً، هل للحاجة أم عادل أم لبنت من بناتها؟ لذلك اتفقت مع عصام أنني سأنادي عليه فور عودة مؤمن، ليدخل إلى البلكونة ويحضر حاجته بنفسه، فهز رأسه بامتنان لاقتراحي، وانصرف ليتركني لمذاكرتي، دون أن أعرف الورطة التي وقعت فيها أنا ومؤمن من حيث لا نحتسب.

أبلغت مؤمن فور عودته بما كان من أمر الكومبليزون، فسارع إلى فتح باب غرفته، وما إن دخلنا إليها حتى وجدنا جثمان الكومبليزون مسجّى في أحقر أركان الغرفة، وكان منظر البقع التي تملؤه كافياً لشرح ما جرى له بالأمس، وكان كافياً أيضاً لدفعنا بمجرد تبادل النظر إلى الاتفاق على قرار فوري بادعاء الإنكار التام لما حدث، والمسارعة بالتخلص من جسم الجريمة في أسرع وقت، وبالطبع لم يكن المقام يتسع لكي أشير لمؤمن، إلى ملاحظة أنه استخدم لفظ "الكومبليزون" مثلي في تسمية القطعة المنتَهّكة، ولا لكي أفتح معه حواراً عن الفروق بين أسماء "الكومبين" و"الكومبليزون" و"الشلحة"، وما قد يستجد من أسماء ربما كان يعرفها، ولم أحط بها خُبرا.

لففنا الكومبليزون المغدور في كيس أسود، وسارعنا بالخروج من الشقة، قبل أن ينتبه عصام أو أحد إخوته إلى عودة مؤمن، فور رؤيته للإضاءة المنبعثة من غرفته، فيداهمنا مطالباً باسترداد الأمانة التي لم نحسن الحفاظ عليها، ثم انعطفنا من باب العمارة يساراً باتجاه الجزء الخالي من الإنارة في الشارع، بدلاً من أن نسير يميناً متجهين إلى شارع المحطة، حتى لا ترانا الحاجة أم عادل من موقعها المفضل والدائم في البلكونة، فتنادي علينا أو ترسل عصام في إثرنا، فينفضح سترنا.

كان أول حل فكرنا فيه هو رمي الكومبليزون في نيل البحر الأعظم القريب منا، لكنا تراجعنا عن الفكرة، لأن الوصول إلى النيل نفسه كان مستحيلاً في تلك المنطقة التي تحتلها عدة أندية نهرية وكازينوهات سياحية يستحيل على صايعّين ضايعَين مثلنا دخولها، لذلك كنا سنضطر إلى المشي حتى كوبري عباس لنرمي الكومبليزون من فوقه فيستقر في قاع النهر الخالد، لكن مؤمن فاجئني بتساؤل عن حرمانية ذلك الفعل، خاصة أن ما يمكن أن يذوب من بقع تلطخ الكومبليزون، يمكن أن يجري في المياه الطاهرة التي يشرب البعض منها دون أن يأخذوا خوانة، فتستقر تلك الحيوانات اللعينة بشكل أو بآخر في جوف بنات عائلات محترمات لا ذنب لهن في تحمل تبعات وضاعة النفوس الضعيفة التي أوقعتنا في هذه الورطة.

كنت متوتراً جداً مثل مؤمن، ولذلك لم أناقشه في عقلانية فكرته، ولا في استحالة أن يصدر تفكير طفولي كهذا عن خريج جامعي مثله، أوكلت إليه وزارة التربية والتعليم مهمة التدريس في مدرسة صناعية، لذلك قدرت أن عقليته قد تأثرت بحكم إنهاكه الناتج عن عمله الصبح في المدرسة، وبعد الظهر في أحد كافتيريات وسط البلد، ليتمكن من إنجاز مشروع زواجه المتعثر، وبعد أن قلبت ما قاله في دماغي، أكبرت له تخوفه غير العقلاني، لأنه يدل على نفس لوامة، تختلف عن النفوس الواطية التي أسكنها غرفته مضطراً.

بعد تجوال بالكيس اللعين في الشوارع المحيطة ببيت الحاجة أم عادل، قررنا رمي الكيس بما فيه في ركن قصيّ من أركان الجنينة التي تواجه محطة قطارات الجيزة. كان مؤمن قد اقترح حرقه مع بعض غياراتنا القديمة، لكي يختفي أثره إلى الأبد، لكننا كنا وقتها في عز الصيف، ولم يكن أحد سيصدق أننا نحرق لنتدفأ، ولأن الجنينة كانت قرب المحكمة، وكان اللبش يعم البلاد في مطلع التسعينات، فقد تم إلغاء الفكرة لأن تداعياتها التي قد تحدث بصدفة بايخة، ستجعل من سخط أم عادل أهون مشاكلنا، لذلك دارينا كيس الكومبليزون إلى جوار شجرة في طرف الجنينة، ولُذنا بالفرار، حامدين الله وشاكرين ستره وتخليصه لنا من تلك المصيبة بأقل خسائر ممكنة.

بالطبع، كنا نعرف عن الحاجة أم عادل العناد وقوة الشكيمة، سواءً مما سمعناه عنها من الجيران الذين كانوا يلقبونها بالمرأة الحديدية، أو مما رأيناه في قعدتنا معها خلال توقيع عقد الشقة، وهي تشخط وتنطر في أولادها "الشحوطة" دون أن يرفع أحدهم في وجهها عيناً أو صوتاً، لكننا لم نكن نتصور أن الموضوع سيكبر في رأسها، لتعتبر عودة الكومبليزون أو الكومبين أو سمه ما شئت، مسألة كرامة يرتبط بها استمرار بقاءنا في الشقة، خاصة بعد أن اتضح أنه يخص ابنتها الكبرى التي كانت تؤمن بإمكانية استخدام الملابس الداخلية في الأعمال السفلية التي تمنع الزواج وتؤخر مجيئ العَدَل، ولذلك حين استدعتنا الحاجة أم عادل بشكل عاجل في صباح اليوم التالي، قبل أن يذهب كل منا إلى حال سبيله، ما كنّا نعرف أنها لأجل بختنا الهباب، كانت قد رأت بأم عينها قريب مؤمن، وهو يأخذ الكومبليزون فور سقوطه من حبل الغسيل إلى مثواه الأخير في بلكونة مؤمن، على أقاربه من الله ما يستحقون.

.....

مقطع من روايتي (العفاريت التي تسكن شقة ياسر الذي مات وأنا أعتقد أن اسمه حسن)، وهي الجزء الثاني من رواية (أم ميمي) التي تنشر قريباً عن دار الكرمة، وأواصل نشر مقطع آخر في الأسبوع القادم بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.