ما بعد سقوط الكومبين (19)

09 ابريل 2020
+ الخط -
بعد كل ما رأيته في سائر أرجاء شقة حسن وأمه، وبالأخص في الحمام ذي الباب المنزوع والمحشو بالأبراص، لم أعلّق آمالاً عريضة على حال البلكونة، التي اعتبر حسن أنها أهم إنجاز سأحصل عليه من السكن في الشقة معه ومع أمه، ومع ذلك كانت البلكونة أسوأ مما ظننت.

كان عرض البلكونة شبراً بالكثير، أو بلاطة صغيرة وربع بلاطة إن شئت الدقة، بحيث أن شخصاً زاده الله بسطة في الجسم كحالاتي، سيحتاج إن رغب في دخولها إلى تهوية وجهه وقفاه بالتناوب، ولذلك لم يكن غريباً ألا ألحظ وجودها حين وقفت أمام العمارة، ولأن الشارع كان شديد الضيق، بحيث يتسع بالكاد لمرور سيارة وموتوسيكل أو سيارة وعجلتين في نفس الوقت، فقد كانت البلكونة لا تطل على منظر سوى البيوت القبيحة المواجهة لها، لكن هذا لم يكن أبرز مشاكلها، فمشكلتها الأخطر أن ارتفاع سورها كان يصل إلى ما يناهز محاشمي بقليل، ولذلك كان يتوجب علي إن رغبت في شم الهواء أو نشر الغسيل، أن أدخلها جالساً أو زاحفاً لكي لا يهوي أم رأسي إلى أم الشارع، في حين كان لشقة الدور الأوطى بلكونة عادية مثل بلكونات الناس لها سور عالٍ ثُبِّت فيه منشر غسيل كبير، حيث قرر الأستاذ عبد الواحد صاحب البيت، الذي قرر أن يدلع نفسه دون باقي سكان بيته الذي كان يعلم حين قرر بناءه من ثلاثة أدوار في كل منها شقة وحيدة، أن البيت معتم وضيق الروح لدرجة تجعل من يسكنه محتاجاً إلى وجود بلكونة واسعة، لكنه اختص نفسه بتلك الميزة، وهو ما كان ينبغي أن يمدني بالكثير من المعلومات عن شخصيته المضطربة التي أجبرتني الأيام على الصدام معها.

كنت أعلم أنني لن أجد في ذلك الوقت الضيق اختياراً أفضل لأسكن فيه، ومع ذلك قررت ألا أجعل قبولي للسكن في شقة حسن وأمه سهلاً، فأخذت أعدد مثالب البلكونة بنبرة ساخرة، وأذم إلى حسن وأمه ومحمود حال غرفة نومي الضيقة والغرفة الأضيق المتصلة بها، ولم يكن ذلك أمراً صعباً في ظل حالة الحوائط المزرية والبلاط الذي فقد لونه الأصلي والعفش المتداعي، ليسفر كل ذلك "التأتيت والتقطيم" عن مكسب سريع وهزيل، حين عرض عليّ حسن أخذ المساحة الخالية الموجودة أمام باب الشقة والتي كان يفترض أن تكون صالة لاستخدامنا جميعاً، لكنه قرر أن يتنازل عنها ووالدتها، لتكون مكاناً إضافياً يمكن أن أشتري له طاولة صغيرة لأتناول عليها طعامي أنا وضيوفي، أو أستخدمها لتنويع أماكن المذاكرة التي لم ينس حسن أن يضع البلكونة الضيقة على رأسها، وحين قلت له أن المساحة التي تبرع بها لا يمكن أن تلتقط فيها أنفاسك إلا إذا قمت بفتح باب الشقة، وهو ما سيدخل إليها المزيد من الأبراص والفئران والحشرات، فقد حسن أعصابه وقال بانفعال ـ لم أكن أعلم أنه محسوب ـ إنها في الآخر ليست شقة المرحوم والده لكي يدلل عليها، وإنه مجرد فاعل خير يريد أن يساعد على حل مشكلة عرفها بالصدفة من محمود، وأنه سيكون سعيداً لو قررت أن أنوّرهم بالسكن في الشقة، وسيكون أسعد لو وجدت شقة أفضل، بل وسيساعدني على نقل حاجياتي إليها، لأنه سيفعل أي شيء لخدمة محمود وأصدقاء محمود الذين هم في النهاية "زي اخواته"، ثم فشخ ضبّه عن ابتسامة عريضة، وقال إنه سيتركني أنا ومحمود للتشاور واتخاذ القرار النهائي، في الوقت الذي يقوم فيه بتغيير ملابسه استعداداً للحاق بموعد مجموعة تقوية.

حين خلت لنا أجواء الغرفتين اللتين يفترض أن أسكنهما، قال لي محمود بهدوء حاسم إن علي ألا آكل من الأونطة التي غرفها لنا حسن قبل قليل، لأن ما يعرفه عن حسن أنه بخيل ويموت على القرش، ولو لم تكن له مصلحة من وراء سكني في الشقة لما سعى إلى ذلك، ولما شال معنا كتابين على بعض، وأن استعداد حسن للانتهاء من إجراءات تجهيز شقته لكي ينهي مشروع زفافه المتعثر، جعله يحرص على كل مليم يمكن أن يساعده في إنجاز تلك المهمة، وحين رآني محمود أهز رأسي صامتاً، خشي أن يُفهم أنه يقوم بتسخيني على قرار ما، فقرر أن يصمت ويشترك معي في لعبة التحديق في أرجاء الغرفتين، خصوصاً أنني اكتشفت أن الدولاب الموجود في غرفة النوم يخفي خلفه باباً يفضي إلى السلم، ولم أكن قد لاحظته حين دخلنا، وبدا لي غريباً أن يحرص الأستاذ عبد الواحد على عمل بابين للشقة، في حين استخسر توسيع البلكونة وتعلية سورها.


حين طال صمت محمود، اضطررت لأن أسأله عن رأيه النهائي الصريح في الشقة، بوصفه سيسكنها معي، مثلما كان يسكن معي شقة الحاجة أم عادل، فقال متلعثماً إنني لا يمكن أن أعتمد عليه في قرار السكن، لأنه كما قال لم يسكن من قبل في حارة، وأن هذه المنطقة التي جئنا إليها تعتبر بالنسبة له منطقة مجهولة برغم كونه من مواليد الجيزة وسكانها طول عمره، لكنه في الوقت نفسه يرى أن الشقة ليست أسوأ بكثير من شقة الحاجة أم عادل، إذا استثنينا الحمام الذي وعد بالضغط على حسن للانتهاء من إصلاحه في أقرب وقت، وحين ظللت أهز رأسي صامتاً بعد أن انتهى من كلامه، طلب أن يسمع تعليقي، فقلت له إن السبب الوحيد الذي يمكن أن يدفعني للموافقة على السكن في هذه الشقة، هو الحارة التي تحدث عنها بسلبية، ليس فقط لأنها حارة شهيرة أنجبت لمصر اثنين أحبهما مثل محمود السعدني وشقيقه صلاح، بل لأنني كنت أحلم منذ جئت إلى القاهرة أن أسكن في حارة من تلك الحواري التي كانت رؤيتها في الأفلام والمسلسلات تبهجني، لكنني وجدت نفسي متورطاً في السكن في البداية في مدينة نصر أقبح أحياء القاهرة وأسمجها، ثم في شارع الهرم أقبح شوارع الجيزة وأزبلها، وحين سكنت بعد ذلك في شقة الحاجة أم عادل، لم يكن هناك فارق كبير بين شارع المحطة بالجيزة وشارع عمر بن الخطاب الذي يطل عليه بيتنا في الاسكندرية، والذي كان يفضي هو أيضاً إلى محطة القطار الرئيسية الواقعة في ميدان الشهداء بمحرم بك، ومع أنني لم آخذ فرصة كافية للتعرف على تضاريس وتفاصيل المنطقة المحيطة بشقة حسن وأمه، إلا أن النبذة التعريفية التي ألقاها علينا حسن قبل أن نصعد، وما لمحته من شباك التاكسي ونحن نسير، كان كافياً ليجعلني أستبشر خيراً بالمكان المحيط بالشقة، أما الشقة نفسها فقد وافقت محمود أنها محتملة، أو فلنقل إنني قد رأيت وعشت فيما هو أسوأ منها.

اقتحم حسن علينا الغرفة، في الوقت الذي كنت أنا ومحمود نتخيّر الركن المناسب لرص الكتب، فاستبشر خيراً بما سمعه، وهو ما استفزني فقررت التغتيت عليه، مشيراً إلى منشر الغسيل الواطئ الموجود في بلكونتي الواطية، وقلت له إنني لو قررت السكن في الشقة، سأعتذر عن السماح له وللحاجّة والدته باستخدام المنشر، لأن غرفتيّ ستغلقان خلال وجودي في الكلية، ولكي ألطف وقع الكلام عليه قلت إنني لن أفعل ذلك لأنني أمتلك شيئاً أخاف عليه، وحتى لو كنت أمتلك ما أخاف عليه لما خشيت عليه منه ومن ست الكل، لكنني شخص يحب أن يشعر بقدر من الخصوصية، وأنه لو سأل محمود لأكد له أنني كنت أغلق باب غرفتي في شقة الحاجة أم عادل بالضبّة والمفتاح، وقبل أن يفتح محمود فمه، كبسني حسن وقال إنه لم يكن يسمح أصلاً لأمه باستخدام هذا المنشر، خوفاً عليها من أن تسقط إلى الشارع، وأن هذا المنشر لا يصلح أصلاً إلا لاستخدام الأقزام، كما أن الشمس لا تطل على المنشر طويلاً بسبب ضيق الشارع، فضلاً عما سيلوث الغسيل من عُفار الشارع وغبرته.

لم يأخذ حسن باله من أن تشريكه للمنشر كان يتناقض مع ما سبق أن قاله عن محاسن البلكونة، لكنه كان مهتماً بالرد السريع على شعور التخوين الذي بدر مني، وأنا لم أبالِ بذلك، لأنني كنت مهتماً أكثر بوضع حدود صارمة ما بيننا منذ البداية، لكي لا يغلب على علاقتنا انفتاح السداح مداح الذي كان يمكن أن يستهلك وقتي الكافي بالكاد لعمل اللازم قبل هجوم الامتحانات، وقبل أن أعلق على ما قاله، جاءني صوت أم حسن من خلفه قائلاً بتودد إنني يمكن أن أنشر غسيلي في منشر غرفتهما الذي يطل على المنور، والذي تزوره الشمس وقتاً أطول، ويفتقر إلى الغبار والعُفار، ليرد حسن على غلاستي بغلاسة مماثلة، قائلاً لها إنه لا داعي لإحراجي باقتراحات كهذه، لأنني كما يبدو شخص يفضل خصوصيته على كل شيء، حتى غسيله، وأنه يعرف أن "الجماعة بتوع الإعلام والصحافة" لهم مزاجهم الخاص الذي لا ينبغي لأحد تعكيره، مضيفاً أنه لم يأت إلى الغرفة أصلاً لكي يستعجل قراري، بل ليسألني كم معلقة سكر أشرب مع الشاي الذي بدأت أمه في إعداده، لنشربه سوية وهو يسمع قراري النهائي قبل أن ينزل لأكل عيشه.

حين ذهب حسن لإكمال تغيير ملابسه، وذهبت أمه لإكمال الشاي، قال محمود إنه فخور بتعلمي من أخطاء الماضي، بدليل أنني انتهزت الفرصة لكي أرسم حدوداً مستقبلية لعلاقتي مع حسن وأمه، مع أنه يرى أن حسن وأمه لن يمثلا مشكلة كبيرة بالنسبة لي من حيث إضاعة الوقت، لأن ما يعرفه محمود عن حسن أنه منشار دروس خصوصية، وأن خطيبته رحاب تشكو طيلة الوقت من أنها لا تراه كثيراً بسبب انشغاله في الدروس والمجاميع، وما يعرفه عن أم حسن من خلال حديث ابنة خاله أنها سيدة "قِتمة" لا تحب الكلام كثيراً، وأن رحاب تنتزع الكلام منها بالملقاط حين تلتقيها، وهو ما يجب أن يبشرني بخير لأن مأساتي مع أم ميمي وشعراوي ومؤمن من بعدهما لن تتكرر.


المهم أنني كنت في اللحظة التي جاء فيها محمود بسيرة أم ميمي، أفكر في ملامح أم حسن التي بدت لي تحت إضاءة لمبة الصالة أوضح بكثير، فذكّرتني بوجه الراحلة أم ميمي، وإن كانت أم حسن أنحف بكثير في الوزن وأقصر في الطول، إلا أن شبهاً أكيداً بدا لي بين السيدتين، ذكرني بالممثلة هانم محمد المتخصصة في أدوار الأمهات في كثير من أفلام الثمانينات والتسعينات، ومع أنني لم أتأكد ما إذا كانت أم حسن فاقدة للكثير من أسنانها، أم أن الإضاءة هي التي صورت لي ذلك، إلا أنني وجدت نفسي ميالاً لتصديق ما قاله محمود نقلاً عن ابنة خاله أن أم حسن ستكون أهدأ في طباعها وأقل إزعاجاً من أم ميمي، ومع ذلك فقد ضبطت نفسي وأنا أحنّ إلى أم ميمي والأيام والليالي التي جمعتني بها، مما يؤكد أن الإنسان بطبعه "رمرام نوستالجيا"، وأنه يمكن أن يحن إلى الوساخة التي بين أظافر رجليه، إذا لم يجد شيئاً من ماضيه يحن إليه، وهو ما كان يمكن أن يشكل موضوعاً لحديث فلسفي مستفيض مع محمود، لكن وقت إعلان القرار كان قد أزف، ولم يكن التحقق من أوجه الشبه بين أم ميمي وأم حسن سيؤثر على اتخاذه في شيئ.

حين أعلنت قراري بالموافقة على السكن مع حسن وأمه، استقبل حسن القرار بفرحة بالغة، ونهض من مجلسه ليعلنه لأمه التي جاءت تسعى من طرف الشقة، مسلمة علي بحفاوة ومربتة على كتفي وهي تسأل الله أن تكون سُكنة خير، وأن يجعلها الله بالنجاح والتوفيق لي ولابنها، ليخرج كل منا إلى شقة عروسته، ولا أنكر أنني فرحت بمظاهر الفرحة التي كست وجه حسن وأمه، لكنني تساءلت عما إذا كنت بالفعل أبدو لهما كرفيق سكن يبعث على الفرحة والاطمئنان، عازماً على أن أكون كذلك ما استطعت، لأن أي مشاكل مع رفاق سكني الجدد، لن تنحصر داخل حدود الشقة، بل ستصل إلى خال محمود وأسرته، وربما وجدت طريقها إلى ملفات المخابرات العامة المصرية يوماً ما.

لم يتأخر تفسير فرحة حسن وأمه بي أكثر من أسبوع، فقد طرق الرجل باب غرفتي ذات ليلة، وكان محمود يذاكر كعادته عندي. دخل حسن إلى غرفتي بصحبة كيلو جوافة بناتي وكيلو كمثرى خشابي وخرطتين بسبوسة فاخرة لا تخلو من اللوز وكيس لب أبيض سوبر وثلاث كوبايات شاي مضبوط، وقال لنا في تفسير ذلك الكرم الغريب على سمعته، إنه جاء ليحتفل معنا بأهم نقلة في حياته العملية، وهي حصوله على عقد عمل في السعودية كمدرس أول للغة الإنجليزية بمرتب لم يكن يحلم به، وأن العقد سيتطلب سفره في أسرع وقت إلى مدينة تبوك الكائنة شمال المملكة السعودية، والتي لم أكن أعرف أنها منطقة مأهولة بالسكان منذ أيام غزوة تبوك، وأن حسن كان موعوداً بذلك العقد منذ سنة، إلا أن الله شاء أن يأتيه بعد انتصاف العام الدراسي، بعد أن حصلت ظروف مفاجئة للمدرس الذي كان يشغل الموقع التعليمي الذي سيذهب حسن لملئه.

قال حسن وهو يأكل قطعة ضخمة من البسبوسة التي أحضرها إنه بحمد الله سيحصل من العمل في المدرسة لوحدها، على ضعف ما يحصل عليه من التنطيط بين المدارس والبيوت ومراكز التقوية، ولذلك قرر أن يسافر فوراً، حتى لو أدى الأمر إلى فصله من وزارة التعليم التي كادت تقصف عمره بدري بدري، وبعد أن انهلنا عليه بالتهاني والتبريكات، ونحن نحاول اللحاق بشيء مما أحضره، قرر حسن أن يدخل في الموضوع الذي كان يلف ويدور حوله منذ أن عرفته، فقال إنه قرر ألا يسافر إلى مكان ناءٍ كهذا لوحده، خاصة أن أهلها يقلقون من العزاب كما قيل له، ولذلك اتفق مع حماه خال محمود على عمل فرح سريع على الضيق الأسبوع القادم مباشرة، يسافر بعده إلى تبوك بمفرده، لكي يستلم عمله الذي سيحصل معه على سكن، وفور تجهيزه لشقة الزوجية، سيرسل إلى رحاب زوجته لكي تلحق به إلى هناك، مضيفاً بعد لحظات صمت أنه لن يخفي علينا، فنحن "مش غُرب"، أن من أحضر له الوظيفة وعده بأن يضمن له في الأجازة الصيفية عملاً في مصنع كبير سيقوم فيه بدور المترجم مع الوفود الأجنبية، وأنه وعده أيضاً بأن يحصل لرحاب على وظيفة تدريس بدءاً من العام المقبل، وهو ما يعني أنه سيتمكن خلال خمسة أعوام على الأكثر من حسم كل متطلبات أسرته المادية، والعودة من الغربة مبكراً للاستمتاع بحياته، ومواصلة حلمه القديم بالحصول على الماجستير والدكتوراة.

أخذ حسن يستفيض في الحديث عن أحلامه للمستقبل البعيد، في حين كنت مشغولاً في أحلام المستقبل القريب، وأهمها إعادة ترتيب أوضاع الشقة بعد أن يخلو لي وجهها فور رحيل حسن وأمه، خاصة أن دفع إيجارها سيظل في مقدوري، حتى لو لم يساهم محمود معي بأي مبلغ رمزي، عازماً على نقل مقر نومي إلى غرفة حسن وأمه التي كانت أكثر براحاً وأفضل تهوية من غرفتي، لأسمع خلال انشغالي بإعادة تقسيم الشقة صوتاً قادماً من بعيد يقول لي بتودد لزج: "وطبعاً مش هآمن حد أحسن منك على الحاجّة، دي والدتك قبل ما تكون والدتي"، وحين تأكدت أن الصوت الذي سمعته كان صوت حسن، ولم يكن صوتاً منبعثاً من تلفاز أمه الذي تعودت على انتقاله بين المسلسلات من قناة لأخرى، سمعت صوت سعال محمود الذي كاد يَشرَق بحبة لبّ، وبعد أن ساعدناه أنا وحسن على استعادة تنفسه المنتظم، عاد حسن ليقول وهو يسوق الهبل على اللزوجة: "أنا مش فاهم، هو في مشكلة إن الحاجّة تفضل قاعدة هنا بعد سفري، مش ده بيتها برضه ولا أنا فاهم غلط؟".

أتبع حسن ما قاله بخبطة تودد على فخذي، لم أعد أذكر الأيمن أم الأيسر، ثم انتقل إلى فخذ محمود بخبطة مماثلة قائلاً بضحكة عريضة: "ومين عارف على ما تخلّصوا الجامعة يا وحش انت وهو.. هيكون بقى لي وضعي هناك في السعودية وأشوف لكم شغلانة حلوة معايا.. انت تمسك إدارة العلاقات العامة في المصنع وانت تمسك إدارة الشئون القانونية.. وأهوه نساعد بعض على تعب الغربة.. ألف مبروك علينا مقدماً يا شباب"، ولم يتوقع حسن أن أكسر حالة البهجة التي كان يحاول تسويقها، حين قلت له بجفاء: "طيب ما تاخد الحاجّة معاك تمسك إدارة النظافة، وأنا متنازل لها عن نصيبي في الشغل"، ليسود الأجواء صمت مكهرب، خشي الجميع من عواقب ما سيليه، خاصة بعد أن طلعت العيبة من فمي، والذي كان كان.

....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.