ماهر البارودي في برج الحمل الذبيح

11 اغسطس 2014
"المتحف"، 2005
+ الخط -

في مطلع العام 2002، قرّرت أن أنفّذ أعمالي النحتية من مادة البرونز، لذا بدأت التّردد على محترف النحات زكي سلّام في الحسينية في ريف دمشق. كان المشغل يعجّ بالأغراض؛ قوالب من السيليكون والجصّ، نسخ من الشمع تُحضّر لتصبح برونزاً، منحوتات برونزية بحاجة إلى إنهاء. من بين هذه المنحوتات ينتصب تمثال لامرأة لها عضو ذكري تبول في حفرة. كانت المرة الأولى التي أرى فيها نحتاً خارجاً عن السائد والمكرّس ولا يأبه بمعايير الرقابة العرض والتسويق المحلية.

شاءت الصدفة أن أسافر إلى مدينة ليون في فرنسا لأكمل دراستي هناك وألتقي بماهر البارودي صاحب هذا العمل. التقيته أخيراً في المقهى الذي اعتدنا التردد إليه مقابل نهر الرون. تحدثنا عن البدايات، قرار السفر، سوريا اليوم، عن أعماله والرّموز التي باتت معروفةً بها، والدوافع التي وقفت خلفها. وربما تكون العلاقة العائلية الاستثنائية التي جمعت البارودي (59 عاماً) بشقيقه، المريض نفسياً، واحدة من أهم التعقيدات التي وجدت طريقها لتتجسّد في تجربته الفنية.

ما زال البارودي يستعيد بكثير من الحميمة تلك الأوقات التي كان يزور فيها شقيقه نزيل مشفى الأمراض النفسية في دوما، وقد كان آنذاك طالباً في كلية الفنون في دمشق. مرض أخيه دفعه إلى الاهتمام أكثر بموضوعة المرض النفسي. وتمكّن أثناء تردّده إلى المشفى من تنفيذ بعض الدراسات عن المرضى هناك. حول ذلك يعلّق البارودي: "كان المصحّ أشبه بسجن؛ بعض المرضى يحجر عليهم في زنزانات وكأنهم مجرمون خطرون".

ومن عالم الأمراض النفسية الغامض والمستعصي، نقل البارودي اهتماماته إلى عالم لا يقل تعقيداً حين قرّر أن تكون ثيمتا المجاعة والمجزرة موضوعاً لمشروع تخرجه عام 1979. يقول: "تأثرت بمشاهد المجاعات في أثيوبيا، وقد نفذت أربعة أعمال حول هذا الموضوع، بالإضافة إلى عمل يحاكي مجزرة تل الزعتر".

              

"ما زال واقفاً"، 2010


عقب تخرجه من دمشق، غادر البارودي إلى فرنسا بنيّة استكمال دراسته في الفنون الجميلة. وفعلاً تحقق له ما أراد، وعاد إلى بلده ليصبح مُعيداً في الجامعة لعام واحد فقط، لم يستطع بعده أن يبقى في سوريا، حيث قرّر الهجرة إلى فرنسا: "لم أستطع التأقلم مع شروط العمل في الجامعة، عدا عن العديد من المشاكل العائلية التي واجهتها؛ ما دفعني إلى اتخاذ القرار بالرحيل نهائياً".

هذه المرة، اصطحب البارودي شقيقه المريض معه أملاً أن يجد له علاجاً أفضل، ليعود هو أيضاً إلى الانهماك بحضور المرض النفسي في الفن التشكيلي. "كنت أرافقه حيثما يذهب لأهتم به، وفي الوقت نفسه كنت أرسمه. رسمته في كل وضعياته وحالاته. كان بالنسبة لي بمثابة الموديل". في تلك الفترة، عمل مدرّساً للرسم في مدرسة للفنون التطبيقية في ليون. كان يصطحب الطلاب إلى الرسم في الأماكن العامة، خصوصاً محطات القطار المليئة بالمشردين، أثاره مظهرهم ولاحظ أن هناك تقاطعاً كبيراً بين حالهم وحال أخيه حين يشتد المرض عليه.

امتد اهتمام البارودي بفكرة الإنسان المهمش، المرفوض اجتماعياً، المعذب والمقموع حتى نهاية التسعينيات، إذ نفّد خلال هذه الفترة العديد من أعمال الرسم والنحت التي تصور عذابات الإنسان بأسلوب لا يخلو من السخرية والتهكم، لتبدأ بعدها مرحلة التمثيل الحيواني.

"بيننا"، 1982

في معرضه الفردي في صالة "روغارد دو سود" في ليون عام 2002، تجسّد أول ظهور لعنصر الحيوان الذي بدا، كما أراد له البارودي، مباشراً إلى درجة اقترابه من فن الكاريكاتير. شهدت هذه الفترة العديد من الأحداث السياسية الجسيمة التي أعادت تجسيد المجتمعات في الفن التشكيلي إلى الواجهة، مثل تفجيرات الحادي عشر من أيلول وما تلاها من غزوٍ لأفغانستان وبعدها العراق. عبّر البارودي عن رؤيته لهذه الحرب بطريقة ساخرة وصادمة أحياناً، مستبدلاً العناصر البشرية بأخرى حيوانية. تذكّرنا هذه الأعمال بمجموعة "نزوات" للفنان الإسباني غويا حين استبدل الإنسان بالحمار أو بالببغاء ليضيف على الموقف الساخر أصلاً مزيداً من السخرية.

يعلّق البارودي على انتقاله إلى ثيمة الحيوان وخصوصاً الخروف: "نفّذتُ العديد من الدراسات على حيوانات متنوعة كالكلب والببغاء والخنزير والحمار، لأستقرّ في نهاية الأمر على الخروف. لا أعرف لماذا! ربما لأنه ضعيف ينساق طواعية إلى الذبح، وربّما لأننا عبارة عن قطيع أغنام".

رسم البارودي ونحت الخروف كثيراً حتى بدأت ملامحه تنتقل إليه. نستطيع أن نلاحظ هذا في منحوتة "ما زال واقفاً" التي قدمها في معرضه الفردي الأخير في "غاليري أوروبيا" في باريس عام 2012. مع الوقت، تقمّص الفنّانُ موضوعَه تدريجياً كما في حالة جياكومتي وعلاقته مع منحوتة الكلب، الذي يقول عنه الفنانُ السويسري في مقابلة مع جان جنيه: "إنه أنا، في يوم ما شاهدت نفسي في الشارع هكذا، لقد كنت هذا الكلب".

أكثر من ثلاثين عاماً مضت على اغتراب ماهر البارودي ولم ينس وطنه الأم. يتمسك بالأمل عندما يتحدث عن سوريا، الأمل الذي لا يخلو من الخوف. يتذكر زيارته الأولى بعد 15 عاماً من الانقطاع عن دمشق، وكيف أصيب بالخوف عندما تاه في شارع الشعلان وهو يبحث عن منزل عمه. الآن يتشارك معه معظم السوريين هذا الخوف. الخوف من أن ننسى المكان الأصل، أن نتوه فيه إذا عدنا يوماً إلى هناك.

المساهمون