مالي تختبر "لغة العقل": حوارٌ غير مضمون مع الجهاديين

19 فبراير 2020
ارتفعت وتيرة الهجمات خلال العامين الماضيين بمالي (فرانس برس)
+ الخط -
لم يُفشِ الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، سرّاً، بإعلانه أخيراً، أن حكومته على اتصال بقادة المجموعات المتطرفة الناشطة في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، والتي ارتفعت وتيرة هجماتها الدموية خلال العامين الماضيين في مالي والدول المجاورة، ولا سيما النيجر وبوركينا فاسو. في حوار مع إذاعة "فرنسا الدولية" وشبكة "فرانس 24" من إثيوبيا، تحدث كيتا على هامش قمة للاتحاد الأفريقي، بـ"لغة العقل"، وكرجل دولة يبحث عن آخر الفرص، كما وصفته الصحف المالية غداة تصريحه، عندما قال إنه لا ضير من سبر أغوار إمكانية الحوار مع "الجهاديين". وعلى الرغم من تواتر معلومات أخيراً عن سماح كيتا للرئيس السابق ديونكوندا تراوري بلقاء أحد قادة المجموعات الجهادية الناشطة في المنطقة، فضلاً عن تضمن لقاء وطني في باماكو في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي دعوات إلى التواصل مع "الجهاديين"، إلا أنه لم تتوفر معلومات عما إذا كان هذا الحوار قد بدأ فعلياً، وكذلك عن موقف أي من الأطراف المسلحة المتطرفة منه. هؤلاء وجدوا في مالي منذ سنوات تربةً خصبة لتنفيذ أجندتهم، مستغلين التوترات العرقية، وتعقيدات هذا البلد الإتنية والاقتصادية والسياسية والبيئية. واستفادوا أخيراً من عودة مقاتلين من سورية والعراق، وتدفق السلاح من ليبيا. هذه العوامل، التي ساعدت على تأخر السلام في مالي أعواماً طويلة، منذ أن دخلتها القوات الفرنسية برعاية جزائرية عام 2013، وكذلك مهمة أممية قوامها 14 ألف عنصر، من الممكن إضافة سببين إليها، يدفعان إلى الضغط من أجل الحوار. أولهما فشل التحركات الدولية العسكرية وبوادر تراجع أميركي في المنطقة، فضلاً عن خطر انهيار كامل لمالي كدولة. هكذا وجد كيتا، ومعه مجموعة من المؤيدين، أن لا مانع من السير على خطى ما يجري في أفغانستان من حوار بين واشنطن وحركة "طالبان"، لكنه يبقى حواراً دونه موانع وصعوبات كثيرة.


وتواجه مالي اليوم واحدة من أسوأ حلقات العنف منذ أن بدأت أزمتها في 2012. وخلال مقابلته مع الإعلام الفرنسي، قال كيتا إن عليه "واجب القيام بكل ما في وسعه، بوسيلة أو بأخرى، لتحقيق نوع ما من التهدئة، لأن عدد الوفيات في الساحل اليوم أصبح مضاعفاً"، معرباً عن اعتقاده أنه "حان وقت استكشاف هذه المسارات المحددة". ورأى أنه "لا يوجد تناقض بين التحاور مع الجهاديين ومحاربة الإرهاب"، لافتاً إلى أن "واجبي ومهمتي إيجاد فضاءات للحوار من أجل التوصل إلى أي تهدئة ممكنة". وعلى الرغم من اعتبار الرئيس المالي أن "الحوار مع الجهاديين ضروري"، إلا أنه أكد أنه "يعرف جيداً نيّات محاوريه". وقال: "لسنا ساذجين كباراً، ولسنا أناساً منغلقين أيضاً".

وجاء كلام الرئيس المالي بعد وقت قصير من انعقاد "الحوار الوطني الشامل" في باماكو، الذي استمر أياماً واختتم في 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي. هذا الحوار الذي جمع نحو ثلاثة آلاف شخصية، منهم الرئيس المالي السابق أمادو توماني توري، خلص إلى ضرورة إجراء انتخابات تشريعية، أخذاً بالاعتبار أن ولاية النواب الحاليين انتهت رسمياً في عام 2008، ومددت مرتين، وكذلك إجراء استفتاء وطني لمشروع الدستور الجديد. وقاطعت أغلبية المعارضة المالية الحوار، على الرغم من حضور متمردي الشمال السابقين. لكن اللقاء أثار لغطاً بعد تأكيد وسائل إعلام محلية ودولية تضمن جلساته دعوات صريحة إلى الحوار مع "الجهاديين"، من دون أن يذكر ذلك في خلاصاته الختامية الرسمية. وتزامن أيضاً مع تسريبات عن لقاء على الأقل جرى بين مبعوثين من الحكومة وأحد زعماء التنظيمات الجهادية، لكن باماكو كذّبت الخبر.

ولكن، من هم "الجهاديون" الذين تحاورهم، أو ترغب الحكومة المالية في فتح قنوات حوار معهم؟ تبدو مهمة التفاوض بين باماكو وقادة المجموعات المتطرفة الناشطة في المنطقة، في غاية التعقيد، لأسباب متعددة، قد يكون أبرزها على نطاقٍ خارجي تحفظات المجتمع الدولي، وخصوصاً فرنسا، التي تردد دائماً أن وجودها في هذا البلد هو لمحاربة هؤلاء المتطرفين، وليس الحوار معهم. وإذا كان الموقف الفرنسي يعتبر انعكاساً لرغبة باريس في استمرار نفوذها في أحد أهم معاقلها الأساسية في أفريقيا، إلا أنه يأتي على الرغم من أجواء الهلع التي تترجمها تصريحات قادة أوروبا أخيراً، من الخشية من تفلت العنف غرب أفريقيا، وخصوصاً مالي، ووصوله إلى القارة. يضاف إلى ذلك أن "الجهاديين" الناشطين في المنطقة، ليسوا مجموعة موحدة، على الرغم من تنسيقهم عدداً كبيراً من هجماتهم، بحسب ما تؤكد المواقع المتتبعة لنشاط المتطرفين.

ويتركز الحديث خصوصاً على فتح قنوات حوار مع زعيمين "جهاديين"، هما إياد آغ غالي، من الطوارق، زعيم جماعة "أنصار الدين"، أحد تفرعات تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب، وأمادو كوفا، زعيم "جبهة تحرير ماسينا" المنضوية تحت لواء "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التي تُعتبر أبرز تحالف لـ"الجهاديين" في منطقة الساحل الأفريقي، وربما كذلك مع أبو وليد الصحراوي، زعيم "داعش" في منطقة الصحراء الكبرى. ويُذكر أن كوفا يتحدر من منطقة موبتي في مالي، ويعمل منذ سنوات على جذب أفراد أقلية الفولان التي ينتمي إليها إلى جماعته، والتي تكررت المواجهات بينها وبين إثنيتي البامبارا والدوغون، أخيراً، ما أوصل إلى حد ارتكاب مجازر تعتبر الأعنف والأكثر دموية في تاريخ مالي الحديث. وأدرجت واشنطن كوفا وغالي على لائحة الإرهاب.

ويعتبر متابعون سياسيون وكذلك شخصيات مالية معارضة للحوار، أن أجندة "الجهاديين"، يصعب الرضوخ لها في مالي، مع رفض شبه جامع لخضوع البلاد للشريعة الإسلامية، فيما يعتقد آخرون أن المجموعات المتطرفة ذاتها غير راغبة في الحوار، في مقابل غياب رؤية واضحة للحكومة حول المنهج الذي ستتبعه، والمبادئ التي ستراعيها في أي عملية تفاوض. كذلك يأتي الحديث عن الحوار من ناحية أخرى، مع دخول القوات المالية للمرة الأولى منذ سنوات إلى مدينة كيدال، بؤرة التمرد المتكررة السابقة للطوارق الذين يسعون إلى إقامة دولة مستقلة باسم أزواد، ما يعتبر انتصاراً رمزياً للدولة، بالإضافة إلى تعزيز فرنسا قواتها بـ600 عنصر إضافي في إطار عملية "برخان" لمكافحة الإرهاب. وتوقعت صحيفة البلد "le pays" الصادرة في عاصمة بوركينا فاسو، واغادوغو، الأسبوع الماضي أن تقف أي عملية تفاوض عند الشروط المتطرفة لقادة المجموعات "الجهادية"، التي تعتبر مرفوضة بشكل قاطع من سلطات باماكو، المتمسكة بالنظام الجمهوري وعلمانية الدولة. ولفتت من جهة أخرى، إلى أن إياد غالي وأمادو كوفا "لا يملكان سلطة على كل الجماعات المسلحة التي تنشط في وسط  مالي وشمالها". من جهتها، تساءلت مجلة "جون أفريك"، عن موقف باريس، الذي يرى في إياد غالي "العدو رقم واحد لفرنسا"، ناقلة عن مصدر فرنسي رفض التحاور مع "رجل يحمل فكر (تنظيم) القاعدة"، ليبقى أخيراً تساؤل عن الموقف الجزائري إقليمياً، والأميركي، من أي عملية تفاوض مع المتطرفين، بعد تعيين واشنطن أخيراً مبعوثاً للمنطقة، وسط أمل ضئيل بتفاهمات موضعية قد تقلص قليلاً من حمام الدم المالي.   

(العربي الجديد)




 

المساهمون