ماكرون وفيروز.. زيارة فرنسية إلى الحلم الرحباني

05 سبتمبر 2020
السيدة فيروز في عرض لمسرحية "صح النوم" عام 2008 (Getty)
+ الخط -

أن يزور الرئيس الفرنسي ماكرون فيروز، المطربة اللبنانية الأولى، في مطلع زيارته الثانية للبنان، فهذا يدلُّ على أنه أكثر حساسية من الساسة اللبنانيّين الذين لم يَخطر لهم أن يحتفلوا بثمانين فيروز يوم بلغتها، والذين تتناوشهم نزاعات على أدنى الحصص في السلطة وفي المناصب وفي المواقع وفي كل شيء، وبالطبع هذه جميعُها هي إرث لبنان ما بعد الحرب الأهلية، التي لا تزال مستمرّة تحت الرماد الذي صار إليه الواقع اللبناني.

زيارة ماكرون لـ فيروز، آخر ما تبقّى من المؤسّسة الرحبانية، تدلُّ على أنّ لبنان الذي يقصده الرئيس الفرنسي هو لبنان الذي سبق الانهيار الحالي، الذي لا يزال البلد يتردّى فيه منذ خرج من حربه الأهلية الأخيرة، التي لا يزال، أكثر فأكثر، يتلقّى نتائجها ويواصل حصادها. وليس ما أصابه في هذا العام والعام الذي سبق سوى ما تتمخّص عنه هذه الحرب المستمرة في كل مكان، ولو بأشكال شتى.

لبنان الذي في الذاكرة الفرنسية، هو ذاته لبنان الذي شارك الفرنسيّون في إرسائه، والذي صار نموذجاً في الأعوام القصيرة التي تلت استقلاله. لبنان هذا كان فريداً في المنطقة العربية التي أقرّت بهذه الفرادة وبنت عليها. فرادة هي من كونه يتّجه بالعكس بالقياس إلى دول المنطقة. حين كانت هذه الدول تعاني بالدرجة الأولى الجرح الفلسطيني وتبدأ منه وتبني عليه.

أرض ملعونة لكن، في نفس الوقت، مرغوبة ومشتهاة

كان سقوط فلسطين عار العرب وكانت استعادتها بالسلاح، وبالحرب، هي مهمّتهم الأولى وهدفهم المركزي. عاشوا طوال الحقبة الماضية في هذا الهمّ الذي كان بالنسبة إليهم فاصلاً ومعياراً. كان القضية الأولى وربما كان القضية الوحيدة. وبالنتيجة أورث الهمّ العسكري أنظمة وسلطات، السلاح والحرب والقوّة العسكرية عمدتها وأساسها، مع أنها كانت حتى في هذه الناحية، وخصوصاً فيها، مدّعية مزعومة. حين حان الوقت ظهر إفلاسها في هذه الناحية وغيرها، كان الإفلاس العسكري استطراداً لإفلاس عام شمل كل شيء.

لبنان، لأسباب شتّى، لم يكن في هذا المسار. لم يطلب من نفسه، ولم يطلب منه أحد، أن يكون محارباً، ولا أن يتبنّى النمط العسكري، ولا أن يكون طرفاً في الموجة القومية المعادية للغرب المسؤول الأول عن قيام "إسرائيل". بالعكس من ذلك ظلّ لبنان مفتوحاً على العالم وعلى الغرب بوجه خاص. أضحى بعد رأسماليات الدولة في المنطقة العربية مرفأً ومصرفاً ومطاراً ومتنزّهاً للمنطقة بأسرها. استفاد هكذا من كل ما جرى بعد سقوط فلسطين: الأنظمة العسكرية والبترول والاقتصاد ما بعد الكولونيالي. لبنان بتعدّده الاثني والطائفي والثقافي بات نموذجاً لحضارة مطرودة من أرض العرب، ولا تزال النخب العربية، التي تعادي الغرب سياسياً، تتواصل معه عبرها اقتصادياً وثقافياً، وتنظر إليه كأرض ملعونة لكن، في نفس الوقت، مرغوبة ومشتهاة.

كان النموذج اللبناني، بخلاف المنطقة كلّها، هو النموذج التعدّدي الديمقراطي المتغرّب المفتوح المتعدّد. بالتأكيد كان لهذا وجهه الثقافي، بل إن هذا الوجه بقي من أبرز ما فيه. كانت المؤسّسة الرحبانية تكاد تكون مثالاً لذلك. الموسيقى التي تزاوج بين التراث السرياني والألحان الغربية، والأغنيات التي تحتفل بنموذج آخر للحب والطبيعة والحياة، والتي تتناول ذلك باحتفالية وشاعرية وبناء للحظات وتجارب خاصة ويومية. كان هذا غريباً على الغناء العربي، فيما يبدو ذلك عودة إلى جذوره وإعادة تأليف له. 

فيروز كانت بأغانيها وبكلمات أغانيها تخاطب في تلك الآونة مستقبلاً خيالياً، ونموذجاً لحياة، واختباراً خاصاً ويوميات شائقة، في الوقت الذي كانت الأغنية العربية الرسمية فيه، تبدو مرثية للحب والحياة وتكرارية لتنهّدات وحرمانات وإعداماً للتجربة والاختبار، وعصراً لهما في لحظة انهيارية وسقوط دامغ. في هذا الوقت بدت الأغنية الفيروزية الرحبانية وكأنها ذخيرة من الأحلام، أو الانفتاح على الحلم وعلى اللحظة وعلى اليوميات.

من هنا يمكننا أن نقول إنّ الغناء الفيروزي أشبه تلك الآونة من لبنان التي كان عندها وعداً، وضفّة لحضارة فاتنة وعدوة، كما كان، بطبيعة الحال، منتمياً إلى مستقبل مطرود هو الآخر، مستقبل ليس للنظم البوليسية والمحافظة الدينية والإيقاع الحربي مكان فيه. مستقبل ليس للسياسة فيه بالمعنى الثوروي القوموي للكلمة أي حضور. يمكننا القول إن ما يعيشه لبنان اليوم هو عكس ذلك. لبنان الآن ليس فقط استمراراً للحرب الأهلية، بل هو أيضاً لم يعد فريداً في العالم العربي، الذي ينتمي إليه أكثر فأكثر، وفي أحيان كثيرة يغدو بؤرته أو إحدى بؤره ومراكزه الأولى.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون