منذ خمس سنوات وماري مين هالسوي تحاكي ثقوب الحرب في أبنية بيروت. مبنى "بركات" الشهير، وأبنية أخرى في سن الفيل والأشرفية وغيرها، تشكل بجمودها مسرحاً تشكيلياً مفتوحاً للفنانة.
مساحات سكنية صمدت في الحرب، ولم تطأها أسنان العقاريين بعد. منصوبة كأنها في انتظار أن تنقل أو تُنسى تماماً. تضاف كمادةٍ إلى سياحة فنية أو أدبية أتخمتنا بها أوروبا بشكل خاص. إنها نصب تذكارية، عديمة التأثير في ظل التجاذب السياسي والاجتماعي اللبناني. عراؤها هذا، وقوتها أيضاً، استدعيا الفكرة لدى الفنانة النرويجية لتضمد ثقوبها بالنسيج. هالسوي لم تتوقف عند كليشيه الفكرة. المقاربة الشعرية بين تضميد جرح وتضميد ثقب في حائط، هي مراهنة على المفهوم، إضافة إلى البعد التجريدي والقصصي في آن لمشروعها.
اختيارها "جروح" كعنوان، يحمل مباشرة مقصودة. ما يهم الفنانة هو أن تتحرك في إرث الصورة الطازجة للحرب وأن تقدّم إلى الجمهور إشارات عن النزاعات ونتائجها الباهظة. تعمل هالسوي على آلة نسج تقليدية. رقعها المتروكة في الجدران تشي بهذا التجاور بين إيقاعين؛ يدوي، وهو أكثر بطئاً وأناقةً وانتظاماً، مقابل الخراب الأسرع والأكثر فوضوية ولفتاً للانتباه. تترك نتاج مقاربتها فوق جسم الحجر الأصلي.
ليس ثمة إنتاج لحائط ما، وإنما نزول عند المساحة الأصلية. هذا التفاعل الحي يجعل المكان الأصلي غير منتهٍ أيضاً. لم تقل الحرب كلمتها الحاسمة، ولا يمكن للفن إلا أن يتدخل في نسج حكاية جديدة في كل مرة. لم تسع هالسوي لسد كل أنواع الثقوب، ليس لأن ذلك غير ممكن وإنما لكي تدل على هذا التوتر في أمكنة الحرب، ومروياتها.
لا تقصد هالسوي الاتصال بالماضي وحسب، بل إقامة اتصال شخصي بأفراده أيضاً. في عملها، ثمة إنتاج لشروط لحظة بعيدة بغية معاكستها بفن حرفي "قديم". كذلك، فإن قيمة مشروعها تتمثل بقدرته على وصل أزمنة ببعضها وإقامة حوار خافت بين تراثين. الفنون تلهث أحياناً وراء الحروب. كما يلهث اليوم نظام أكاديمي وأدبي وفني في الغرب خلف قصصنا السوداء لدراستها.
ضماداتها الملونة مدسوسة وسط الثقوب. مموهة لتلعب دور الثقوب تماماً. ما إن يميِّزها الناظر، حتى ينكسر تجانس المكان وخرابه. الضمادات منبهات؛ ترجع المكان إلى ماضيه، ودوره السوسيولوجي الأول. لكنه استرجاع أيضاً للعنف، كحالة منجزة. العنف المركّز، والمُهمَل نوعاً ما، في المساحات الصغيرة يرمز لمنظومة من التآكل الذي لم ينته بعد. هذا يطوّق جمالية هذه الأعمال ويدحض لحظتها الطويلة. الديمومة تبقى للأبنية ذاتها لا لضمادات النسيج. وهو ما يشاكس الفنانة. فالرقع النسيجية تنصاع للبيئة المفترض وضعها فيها.
وهو ربما ما تريده الفنانة، تذويب المكان في تمويه بسيط، أو إيواء الخراب في الخيوط الدقيقة. إنها أبنية الحرب، الماثلة كنصب تذكارية في عظم المشهد اليومي وتخرج اليوم من غيبوبتها، بالنسيج.