عُرف ماريانو بيرتوشي (غرناطة 1848 - تطوان 1955) في المغرب بتصميمه الهندسي لساحة الفدان، إحدى أشهر ساحات مدينة تطوان والتي كانت تعتبر معلمة أساسية من معالم المدينة في العمران، قبل أن تدمِّرها الجرافات تعسفاً في سنوات الجمر والرصاص انتقاماً من هذه المدينة وتراثها، وهو ما خلّف كثيراً من الأسى لدى كل أبنائها الغيورين على ميراثهم الثقافي.
بعرض مائتي عمل من منجزه الفني في "متحف الأسوار الملكية"، يجري في مدينة سبتة المحتلة الاحتفاء بالفنان التشكيلي الغرناطي. الأعمال المعروضة تشتمل على 90 عملاً زيتياً و45 من المائيات، بالإضافة إلى عيّنات من أعمال الفنان في الحفر والرسم والطباعة، كما يضمّ بعض الأثاث والأدوات التي كانت تشكّل جزءاً من ورشته، وبعض الصور والكتب والوثائق والمجلات والمتعلقات الشخصية وهي كلها ملك حفيد الفنان؛ ماريانو بيرتوشي ألكايدي.
في الطابق الأرضي، في بهو الاستقبال تحديداً، تعرض الأعمال الزيتية والمائية، أما في الطابق الأول فنجد أعمال الرسم بأدوات أخرى مثل قلم الرصاص والحبر الصيني كما نجد متعلّقات الفنان.
ومن أجل فهم أفضل لمسار هذا الفنان ولتأمل أعماله بشكل منظم وعميق تم تقسيم المعرض إلى فضاءين وتسعة أروقة بحسب أشكال التعبير، ويرافق كل رواق نصوص قصيرة توجّه الزائر وتنير له بعض الجوانب من هذه التجربة الغنية، ففي فضاء أعمال الرسم والتصوير نجدها مقسّمة بين أربعة أروقة، فيها: تقديم سيرة كرونولوجية عن الفنان، أعمال زيتية، رسوم، مائيات. أما الفضاء الثاني فهو مقسّم على النحو التالي: رسوم في كتب مطبوعة، طوابع بريدية، ملصقات، بطاقات بريدية، فضاء عمل الفنان.
علاقة بيرتوشي بالمكان العربي بدأت في مسقط رأسه، في الرياليخو أحد الأحياء الأندلسية لغرناطة والذي يقع عند سفح من سفوح قصر الحمراء وجنة العريف. بعدها التحق بمالقة ليدرس الفنون الجميلة في أكاديميتها، وزار مدينة طنجة لأول مرة سنة 1898 بتحفيز من المترجم الخاص للجنرال أدونيل، العالم أنيبال رينالدي، ثم سافر بعدها إلى مدريد لتعميق دراساته ومعارفه الفنية والتشكيلية في "أكاديمية سان فيرناندو" في مدريد.
وبعدئذ تعدّدت زيارات بيرتوشي إلى المغرب مرة كمراسل حربي، ومرات أخرى للقاء أصدقاء له شباب من باريس ينتمون إلى التيار الانطباعي، وبعد انتقالاته بين مالقة وسان روكي وسبتة التي سيقيم فيها بين 1919 و1928، تم تعيينه مفتشاً عاما لمصالح الفنون الجميلة والصنائع المحلية لمنطقة "الانتداب" الإسباني، وحينها سيرتبط اسمه بمدينة تطوان عاصمة المنطقة الخليفية التي تسمّى أيضاً "منطقة الحماية الإسبانية"، إذ صارت تطوان مقراً لإقامته لسنوات عديدة، هنالك أبدع العديد من الأعمال التي ترتبط تاريخياً بذاكرة هذه المدينة مثله في ذلك مثل خوسيه تابيرو الذي ارتبط اسمه بمدينة طنجة.
هذه التحوّلات سيكون لها أثر بارز في جل أعمال بيرتوشي التي تقوم على المرجعية التشخيصية والانطباعية في الفن التشكيلي، وهي المرجعية التي سيغرسها بقوة كملمح مميّز لتلامذته في "مدرسة الفنون الجميلة" في تطوان.
أغلب أعمال ماريانو بيرتوشي تكشف عن شعور بالانتماء لدى الفنان الإسباني إزاء المكان الذي يقيم فيه، والذي نسج معه روابط إنسانية وثيقة، فكل أعماله تقريباً تحاور الحياة اليومية للإنسان المغربي في هذا الجزء من البلاد، تحاور علامات مدينة تطوان العتيقة بأبوابها الموغلة في أندلسيتها وفي رموز منتشرة في دروبها وشوارعها وحدائقها وساحاتها ومساجدها وأسواقها ومقاهيها في أشكال هندسية متقنة، وأناسها بمختلف أعمارهم وانتماءاتهم الاجتماعية والإثنية، كما يتتبّع أيضاً أحلام أطفالها ونسائها، أناس يعبرون الأمكنة والظلال بجلابيبهم، والطبيعة التي تغازل الأعين الذاهلة بالألوان الساحرة في لعبة الضوء والظلال والحركة. نجده قد فعل ذلك أيضاً مع مدن أخرى مثل شفشاون والحسيمة والعرائش وأصيلة والقصر الكبير.
ما يجمع بين كل هذا الميراث هو تلك الرغبة الدفينة لدى الفنان في تقديم صورة مكتملة عن هذا البهاء الذي عانقه حتى آخر حياته، حيث لفظ أنفاسه في تطوان التي شكلت ذاكرة للفنان، لكنه أيضاً غدا جزءاً من ذاكرة المكان.