ماركيز صديق العرب.. أوقّع هذا البيان منفرداً

18 ابريل 2014
غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014)
+ الخط -

آن لهذا الفارس أن يترجل. فبعد مسيرة حافلة من الأدب والصحافة والمواقف السياسية المنحازة دوماً إلى الشعوب المظلومة والقضايا العادلة، رحل عنا ماركيز تاركاً خلفه أدباً إنسانياً خالداً.
كولومبيا التي لا تزال تعيش شبه حرب أهلية وتجاهد للخروج منها في عملية مصالحة عسيرة، تبكي رحيل كاتبها الأعظم غابرييل غارسيا ماركيز. أمة بكاملها في حداد، حكومة ومعارضات، سياسية ومسلحة ، ولكن ليست كولومبيا وحدها في مأتم، بل كل أمريكا اللاتينية.

لقد كان صاحب "مائة عام من العزلة"، و"الكولونيل الذي لا يجد من يكاتبه" و"الحب في زمن الكوليرا" وغيرها، كاتب أمريكا اللاتينية كلها. ولم تستطع حالة الانقسامات التي تعيشها القارة، حديقة واشنطن الخلفية، أن تمنع كتبه من اكتساح مكتباتها والولوج إلى قلوب ملايين القراء المتعطشين إلى الحرية، التي نادى بها سيمون بوليفار، ولم يستطع تحقيقها في حياته.

وخلافاً لحالة "القُطريَة" التي تسود في أدبنا وثقافتنا العربيين فقد كان غابرييل، الهارب من بلده والمقيم في المكسيك، هذا البلد الكبير المضياف الذي منح اللجوء والضيافة لمئات من كتاب أمريكا اللاتينية الهاربين من ديكتاتوريات قاتلة موالية لواشنطن، يكتب من هناك وتتلقف كتبه ومقالاته كل أمريكا اللاتينية.

من الصعب، بل من المستحيل، كما يقول الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتس، وكان صديقاً لماركيز، الحديث عن أدب مكسيكي أو كولومبي أو أرجنتيني أو بيروفي، بل الصحيح الحديث عن أدب أمريكا اللاتينية بجزئه المكسيكي والأرجنتيني والبيروفي وغيره.

وإذا كانت رواية "مائة عام من العزلة" منحت لصاحبها جائزة نوبل، وجعلت النقاد يتحدثون عن الواقعية السحرية، فإن غابرييل غارسيا ماركيز لا يخفي أن الكثيرين من عمالقة الأدب في أمريكا اللاتينية أثّروا فيه، وفي مقدّمتهم المكسيكي خوان رولفو والأرجنتيني خوليو كورتثار وخورخي لويس بورخيس وجورج أمادو وغيرهم.

عاش ماركيز،الذي اشتهر بوفائه لأصدقائه، ولعل من أهمهم الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، مسافراً ومترحلاً على الدوام. ويعترف بأنه تعرف على القضايا العربية، وخصوصاً فلسطين، في باريس، إبان فترة ثورة الشعب الجزائري من أجل تحقيق استقلاله. وكانت سحنته التي تشبه سحنات الجزائريين تثير شبهات الشرطة الفرنسية، فكان يُعتقل معهم، وهناك تعرف إلى بعض الوطنيين الجزائريين الذين تعلم منهم الكثير عن هذه الشعوب التي تعيش مصيراً واستعماراً يشبه حالة شعوب أمريكا اللاتينية. وهناك في باريس، ربحت القضية العربية والفلسطينية مُناصِراً ظل معها على الدوام. لكنّ السياسي العربي المنهمك في السلطة لم يُكلف نفسه عناء تكريم الرجل، كما فعل الكيان الصهيوني مع جان بول سارتر وغيره، فأصبحوا يتبنون سياساتها.

نقرأ للكاتب الكولومبي داسّو سالديفار في كتابه البيوغرافي: «غارسيا ماركيز، سفر إلى الينبوع» الصادر عن دار «لوغراند ميروار» البلجيكية، فصولاً مشوّقة تتحدث عن المرحلة الباريسية في حياة غارسيا ماركيز وإقامته في شارع «كوجاس»، في الحي اللاتيني، الذي أطلق عليه اللاجئون المنحدرون من أمريكا اللاتينية اسم «قبيلة كوجاس» الأمريكية اللاتينية، حيث تأثر ماركيز كثيراً بثورة الجزائر، وتقاسم السجن مع المواطنين الجزائريين، فقد كانت سحنته توحي للشرطة الفرنسية بأصول مغاربية!

وفي هذا الإطار يقول داسّو «لم تكن حرب الجزائر تحتل الساحة الإعلامية بعدُ، ولكنها كانت واقعاً مُهدِّداً لغابرييل غارسيا ماركيز لسحنته العربية (رأسه يشبه رؤوس العرب)، وقد دفع الثمن، إذ لدى خروجه من قاعة سينما ذات مساء، اعتقد رجال الدرك الفرنسيون أنه جزائري، فأشبعوه ضرباً ونقلوه إلى مقر الشرطة في "سان جيرمان ديبريه" مع جزائريين حقيقيين، حزينين وذوي شوارب مثله، وتلقوا هم أيضاً الضربات.

وكي يُهدِّئوا من ضيقهم أطلقوا العنان طول هذه الليلة لترديد أغاني الفرنسي "جورج براسانس". فارتبط ماركيز بصداقتهم، وبالأخص بالدكتور أحمد طبّال الذي نجح في تحسيسه بقضية وطنه. في هذه الحقبة أنجز غابرييل ماركيز العديد من الريبورتاجات عن حرب الجزائر وعن حرب قناة السويس". والذي يكتشف حجم الشهادات وتنوعها في حق الرجل يكتشف حجم الخسارة التي منيت بها الثقافة العالمية، على الرغم من أن غابرييل غارسيا ماركيز كان مريضاً ومتوقفاً عن الكتابة. فمن الرئيسين الأمريكيين، السابق بيل كلينتون، الذي "يعتز بصداقته لماركيز خلال عشرين عاماً" والحالي باراك أوباما، ومن رئيس كولومبيا اليميني إلى الفارك، المنظمة الثورية المسلحة، ومن كل رؤساء أمريكا اللاتينية إلى رؤساء العالم أجمع، إلى مواطنته المغنية شاكيرا جاءت الإشادة بهذا الرجل وأدبه ومساهماته.

والحقيقة أن الإشادة المكسيكية، إضافة إلى الإشادة الكوبية، أكثر قوة وصدقاً، فقد منحته المكسيك فرصة قلما وجدها في بلد آخر. وقد عبر الرئيس المكسيكي الحالي بحق عن الأمر حين قال: " إن كتاباته جعلت الواقعيةَ السحريةَ الأمريكية اللاتينية كونيةً، فأثّر في ثقافة زمننا"، وأضاف أن هذا الكاتب المولود في كولومبيا "جعل من المكسيك "بيته"، مُثرِياً حياتَنا الوطنية".

وقد شكّل رحيل ماركيز فرصة لمصالحة تاريخية بينه وبين ماريو فارغاس يوسا عملاق الأدب البيروفي، إذ كانت قطيعتهما انكساراً كبيراً في أدب أمريكا اللاتينية، وكانت مَعارِضُ الكِتَاب في المكسيك كل سنة تمنح الكثير من الأمل لمصالحة تأبى أن تتحقق. فقد فرقت السياسة الكوبية بين الرجلين، اللذين كانا يساريين معاً، في حقبة من تاريخهما، فظلّ ماركيز وفياً للثورة الكوبية، رافضاً أن يُدلي بأي تصريح علني ضد انتهاكات كوبا لحقوق الإنسان، مفضلاً التدخل الشخصي لدى كاسترو، في حين أن الثاني انشق وحارب الثورة الكوبية وتبنّى الليبرالية السياسية وترشح لرئاسة البيرو لولا أنه فَشِل فربح الأدب وحصل، هو الآخر، على جائزة نوبل. وقال يوسا: "إن روايات غابرييل غارسيا ماركيز ستعيش بعد موته، وسيفوز بِقرّاء في كل مكان من العالم".

وفي مايخص القضية الفلسطينية فإن ماركيز نشر عام 1982 بيانه الشهير عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وندد فيه بالعمل الإجرامي بحق اللاجئين الفلسطينيين، وفي العام 2002، وحين اقتحمت القوات الصهيونية المدن الفلسطينية في الضفة وأعادت احتلالها، أصدر بيانه الناري الذي يدين فيه المجرمين الصهاينة، والذي يندد فيه بمواقف الكتّاب والمثقفين الصامتين في العالم لخوفهم من أن يوصموا بمعاداة السامية، وقال في نهاية البيان، لكل هؤلاء أقول أنا غابرئيل غارسيا ماركيز أوقّع على هذا البيان منفرداً.

المساهمون