ماذا يجري في مصر؟

03 أكتوبر 2019
+ الخط -
واجه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في الأسابيع الماضية، واحدة من أكبر موجات الغضب، منذ استولى على السلطة بانقلاب عسكري في 2013. تفجّرت الموجة بعد أن نشر الفنان والمقاول المصري، محمد علي، فيديوهات يتحدّث فيها عن فساد الرئيس وعائلته ومقربين إليه في السلطة. كان واضحا، منذ الوهلة الأولى، أن المقاول ركّز، في حديثه، على الرئيس وأسرته ورجاله في السلطة، ولم يتعرّض للمؤسسة العسكرية، محاولا الفصل بين الرئيس والمؤسسة العسكرية والتفريق بينهما. شكل هذا نوعا من الضغط على المؤسسة العسكرية، وكان لا بد من محاولة لإنقاذ سمعتها من هذا الأمر، فانبرى في الأيام التالية أشد المؤيدين للرئيس للدفاع عن المؤسسة والتفريق بينها وبين الرئيس، بل وصل الأمر بأحدهم القول إن ذهاب الرئيس لا يعني ذهاب النظام (والذي تمثل المؤسسة العسكرية جوهره). وكان هذا الفصل بين الرجل والمؤسسة هو الأول من نوعه منذ انقلاب "3 يوليو" في صيف 2013، فقبل ذلك كان الخطاب الدائم إنه لا فرق بين الرئيس والمؤسسة العسكرية، وأنهما متلازمان لا ينفصلان. ودشّن هذا الفصل، حتى من أشد مؤيدي الرئيس، لمرحلة جديدة في المشهد السياسي المصري، وطرح أسئلة عدة حول قدرة بقاء السيسي واستمراره في السلطة. ما حدث جعل مراقبين عديدين للمشهد المصري يتساءلون: هل هناك دوائر أو أجنحة في السلطة تقف خلف المقاول المنشق، أو تدعمه. وفي الحقيقة، كان تقديم إجابة على هذا السؤال في غياب المعلومات محاولة محفوفة بالمخاطر، أو فرضية أقرب منها إلى الواقع، قد تثبت الأيام المقبلة صحتها أو خطأها. فمنذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها المقاول المنشق محمد علي، تبينت فرضية مفادها بأن وقوف دوائر من السلطة خلف
الرجل من عدمه ليس جوهر المسألة، بل الأهم ما هي النقطة التي سيصل إليها المشهد الحالي، مع الميل إلى وجود أجنحة داخل السلطة تقف خلف محمد علي. ومع انطلاق الدعوات إلى التظاهر يوم الجمعة الموافق 20 من سبتمبر، انطلقت دعواتٌ مضادة من رجال السيسي في الإعلام والصحافة والدوائر الأمنية لتشويه تلك الدعوة. وللأسف انضم إليهم، بوعي أو بدون وعي، سياسيون وحقوقيون مصريون في رفض التظاهر، بحجة أنها دعوة مشؤومة ومشبوهة في آن. وفي يوم الجمعة، فاجأت الجماهير الغاضبة العالم أجمع، وخرجت إلى الشوارع في عدة محافظات مصرية تهتف بسقوط السيسي ورحيله عن السلطة. كان الغضب موجها في ذلك ضد السيسي وأسرته، وبعيدا تمام البعد عن المؤسسة العسكرية، وهو ما يعكس الخطاب نفسه الذي يتبنّاه ويروجه المقاول المنشق محمد علي. 
أسس ما حدث في 20 من سبتمبر يوم الجمعة لمرحلة جديدة في المشهد المصري، أهم سماتها: أولا، أن الأمر برمته أصبح متجاوزا مسألة هل تقف خلف محمد علي أجنحة أو دوائر من داخل السلطة أم لا، لأنه إذا كان خلفه أحد فقد نجح في إيصال الأمور إلى نقطة اللاعودة وهذا المستوى من الحراك. وإذا لم يكن خلفه أحد، فما حدث في يوم الجمعة كان كفيلا بأن يجعل أطرافا أخرى تدخل على خط الأزمة من داخل الدولة وبنيتها التي لا شك فيها من يرفض ما يقوم به السيسي. ثانيا: بتبنّي الفرضية الأولي (وقوف دوائر في السلطة خلف محمد علي) هذا يعني أن القطاعات المشاركة من تلك الدوائر كانت لها القدرة على تحريك بعض التجمعات عن طريق بعض رجالها في الشارع؛ والتي كانت مناسبة تماما للمزاج الشعبي الذي خرج بصورة عشوائية وأسقط صورة الرئيس علي الأرض ودهسها بالأقدام. ثالثا: لأول مرة، منذ 30 يونيو/ حزيران 2013، تسبق الأطراف المركز، بل وكانت أعدادها أكثر قوةً وكثافة، خرجت محافظات مثل مرسي مطروح، الإسكندرية، دمياط، السويس، المحلة، الدقهلية، المنصورة، ومحافظات في الصعيد. وكان هذا من أهم الأمور التي أدت إلى نجاح ثورة يناير من قبل، وفي إزاحة حسني مبارك من سدّة الحكم. وفي الوقت نفسه، هي مختلفة عن كل الاحتجاجات التي قامت من قبل، وكانت استنكارا ورد فعل لقرارات قام بها السيسي، مثل التفريط في جزيرتي تيران وصنافير، رفع تذكرة المترو.. إلخ. رابعا: الحراك الذي حدث كان وبصورة واضحة خارج كل أشكال البنى التقليدية المعروفة تاريخيا بالنسبة للقوى السياسية المصرية؛ وتنظيراتها المختلفة، ما يعني انضمام طبقات جديدة غير التي شاركت في ثورة يناير في الحراك الحالي.
أربك ما حدث في 20 سبتمبر يوم الجمعة السيسي والذين معه، وأشعرهم بالخوف والفزع والارتباك في تحديد أبعاد الموقف. في تلك الأثناء، كانت تقارير تشير بالفعل إلى تورّط دوائر من دوائر النظام في الحراك الحالي؛ لكنها حتي اللحظة ليست معروفة لدى السيسي والذين معه؛ وعليه لجأ السيسي وأجهزته الأمنية إلي القبض على عدد من الأشخاص (بينهم أكاديميون 
معروفون)، والذين لديهم خطاب محمد علي نفسه؛ أي الثورة علي السيسي وليس على المؤسسة العسكرية، والدعوة إلى إصلاحاتٍ داخل النظام. ويمثل هذا الخطاب خطرا على السيسي، لأنه يعلم جيدا أن إجراء إصلاحات والحفاظ على المؤسسة العسكرية يعني إبعاده من السلطة. وهذا الخطاب المتبنّى من هؤلاء الأشخاص جعل السيسي، والذين معه، يستشعرون أن ثمّة علاقة بين هؤلاء الأشخاص وتلك الدوائر التي يرى أنها متحالفة داخل النظام ضده، فاعتقلهم (خصوصا حازم حسني وحسن نافعة)، في رسالةٍ منه إلى تلك الدوائر الموجودة داخل النظام، مفادها بأنه لن يترك الأمر يمر. تزامن ذلك أيضا عن أنباء عن صدور مذكّرة من نائب رئيس المخابرات، وهو منصبٌ يشغله نجل السيسي، بمنع قيادات مخابراتية من السفر، في محاولة منه للوصول إلى قياداتٍ يشكّ في أنها على علاقةٍ بالحراك الحالي.
صحيح أن السيسي في الجمعة التالية حوّل الميادين الكبرى في مصر إلى ثكنة عسكرية، لمنع خروج المتظاهرين ضده مع شن حملة اعتقالاتٍ شرسةٍ مستمرة، إلا أن الحراك نفسه حقق مكاسب لا يمكن التغاضي عنها، ولم يكن لأحد أن يتخيل الحصول عليها في تلك الفترة القصيرة، أهمها: أولا، تم كسر حاجز الخوف، وتدمير الصورة التي سعي السيسي ست سنوات إلى بنائها، بالسيطرة على الإعلام وإنفاق الملايين على ذلك، ففي أقل من أسبوع سقطت هذه الصورة بكاميرا موبايل وفي لحظة واحدة. ثانيا: لمدة أسبوع، حاول السيسي وأجهزته الأمنية مواجهة الأمر والحشد لدعمه، وعلى الرغم من ذلك كله لم يحشد سوى 25 ألف مواطن (بفرض صحة الرقم) استخدم فيهم طلبة الكليات العسكرية، بل اشترى الحشد بمواد تموينية، مثل الزيت والسكر. وكان لهذا دلالة على أن الرجل انحصرت شرعيته فقط في المنصّة، علما أن مصر أكبر من ميدان صغير وفيها 27 محافظة، كما أنها أظهرت القدرة الحقيقية للرجل وأجهزته على الحشد، فهل يعقل أن هناك شخصا يستمد شرعيته من هذا العدد في ظل دولةٍ تعداد سكانها حوالي مائة مليون؟ كما أنه دليل على أن الرجل ومجموعته خسروا قطاعا واسعا من مؤيديهم، حتى ولو لم يتبنّ أيٌّ 
منهم الخطاب الذي يتبنّاه المعارضون لهم. ثالثا: خروج الناس في مناطق مثل الصعيد دليلٌ على أن العصبيات والقبليات التي كانت متحالفة مع مبارك، وكان معظمها ينتمي للحزب الوطني، ثم تحالفت مع السيسي لإيصاله إلى السلطة لم تعد موجودة، بل وأصبحت ضده. وهذا يعطي إشارة أخرى إلى أن دولة مبارك، أو بقاياها، قد تكون متورّطة أيضا في هذا الحراك. وهذا في الوقت نفسه مؤشّر على استحالة إقامة الانتخابات المحلية، لأن السيسي ليس لديه حزب سياسي، أو تحالفات قبلية تمكّنه من تزوير هذه الانتخابات لصالحه. رابعا. استمد السيسي شرعيته من محاربة الإرهاب والإصلاحات الاقتصادية التي روّجها، إلا أنه في اليوم الذي كان فيه الحشد المصطنع يهتف باسم السيسي في المنصة، استهدف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وقتل جنودا للجيش المصري في أحد الكمائن في سيناء، ما شكل دلالة واضحة على فشل الرجل في محاربة الإرهاب. خامسا: بخروج المتظاهرين يوم الجمعة كان هذا دليلا على إسقاط قانون التظاهر الذي فرضه السيسي لتقييد حركة الجماهير، ومنع التظاهرات ضده. سادسا: لم يعد الدعم الغربي الذي أُعطي للرجل كما كان في ظل بيانات من الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي، لتأكيد حق التظاهر، وتعطيك مؤشرا واضحا عن صورة الرجل في الغرب، فقد أصبح عبئا ثقيلا، فالقمع لا يجلب الاستقرار، كما عبرت الخارجية الألمانية عن ذلك في عنوان بيانها.
السؤال الأهم: هل عبد الفتاح السيسي، والذين معه، قادرون على الاستمرار حتى عام 2030، وبهذه الطريقة كما هو مزمع في الدستور المعدّل؟ وهل هناك منهجية لذلك، وهل يتصور عاقل ذلك؟ وصل الأمر الآن في مصر إلى نقطة اللاعودة؛ من هم في الدولة، خصوصا المؤسسة العسكرية، باتوا يدركون أن السيسي لو نجا من تلك الأزمة سيكون مصير الجميع هو مصير سامي عنان وأحمد شفيق ومحمود حجازي وغيرهم؛ فالأمر أصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة للجميع. مصر في الأيام والأسابيع المقبلة ذاهبة إلى تغيرات واسعة.
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.