28 أكتوبر 2024
ماذا تبقّى في جعبة عباس؟
أيّد الرئيس محمود عباس المبادرة الفرنسية، وعلّق عليها آمالاً كبيرة، دفعته إلى سحب مشروع قرارٍ جرى التداول فيه في أروقة مجلس الأمن حول الاستيطان الصهيوني في الأرض الفلسطينية المحتلة، على الرغم من الشعور السائد بإمكانية تمرير القرار من دون فيتو أميركي، لكنّه غاب عن مؤتمر باريس، وغابت القضية الفسطينية عن نتائجه، إلّا أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وعلى الرغم من معارضته الشديدة للمبادرة الفرنسية، كان حاضراً بقوة في أروقة المؤتمر وفي نتائجه، في كلمة الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، ووزير الخارجية الأميركي، جون كيري، اللذين أكّدا على وجهة نظره القائلة إنّه لا بديل عن المفاوضات الثنائية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، بدلا من المرجعية الدولية الملزمة التي كان يطالب بها الرئيس عباس.
فشلت المبادرة الفرنسية فشلاً ذريعاً في إحراز أي تقدم ولو طفيفا، وانتصر الرأي الصهيوني، وتم تسليم الضحية للقاتل، وتبخّر الحديث عن اعترافٍ فرنسي بالدولة الفلسطينية، وبدت فرنسا عاجزةً عن القيام بأي دورٍ ملموس في المنطقة. وبفشل المبادرة الفرنسية، طُوي إلى أجلٍ سيمتد حتى انتهاء الانتخابات الأميركية أي بحثٍ جدّي في هذه المسألة، لكنّ الأهم أنّ الرئيس محمود عباس استنفد، بفشل المبادرة الفرنسية، آخر الطلقات الموجودة في جعبته.
في أي اتجاهٍ سيتحرك الرئيس الآن؟ وقد اتضح أنّ أوروبا أضعف من أن تفرض مبادرةً، والولايات المتحدة التي فقدت مصداقيتها في رعاية المفاوضات السابقة مشغولةٌ ببيتها الداخلي وبانتخاباتها المرتقبة، أمّا روسيا فقضيتها المركزية في منطقتنا لا تتعدّى الأزمة السورية ورعاية الرئيس بشار الأسد، وليس أدل على ذلك من قصف الطائرات الصهيونية مستودعاتٍ مهمةٍ لحزب الله في قلب المنطقة الوسطى من سورية، حيث تتمركز الرادارات وقواعد الصواريخ الروسية، والأنكى أنّ هذا القصف، وهو أول قرار يتخذه وزير الدفاع الجديد أفيغدور ليبرمان، قد تمّ ونتنياهو يقف على أبواب موسكو في لقائه الرابع مع الرئيس بوتين خلال تسعة أشهر، وليستلم منه هديةً، وهي دبابة إسرائيلية، سبق أن أهدتها سورية لروسيا، بعد أن استولى الجيش العربي السوري عليها في معركة السلطان يعقوب سنة 1982. وستصبح هذه الدبابة، حسب قول نتنياهو، ضريحاً ومزاراً لعائلات ثلاثة من الجنود الصهاينة فقدوا في تلك المعركة الشهيرة.
أصبح الحراك الدولي الذي تقوم به السلطة الفلسطينية موضع شك، بل وتساؤلات عميقة، وتولدت قناعة راسخة بأنّ هدف البالونات التي تُطلق، بين حين وآخر، هو الاستهلاك المحلي،
وتخدير الجمهور بأنّ ثمّة نشاطاً ما يستهدف تحريك الأوضاع، وأنّ لدى السلطة برنامجها لإنقاذ الشعب الفلسطيني من براثن الاحتلال، والبديل عن الانتفاضات والهبات الشعبية. ويكمن موضع التساؤل في سبب التراجع المستمر وغير المبرّر، مثل سحب مشروع القرار الجديد من على طاولة مجلس الأمن، بحجة المبادرة الفرنسية، أو التهديد باللجوء إلى الجمعية العامة لإصدار قرار يُلزم إسرائيل بالانسحاب، ويُؤجل، في كل دورة، إلى السنة التي تليها، وحتى الملفات التي قيل إنّها ستقدم إلى محكمة الجنايات ما زالت حبيسة الأدراج، وإذا حدث أن صدر قرار مثل قرار المحكمة الدولية بخصوص الجدار العازل، أو تقرير غولدستون، فإنّ مهمة السلطة الفلسطينية حينها هي قبر هذه القرارات وتجميدها، بدلاً من متابعتها وتفعيلها. لم تعد هذه المواقف تحتمل السكوت عنها، أو التساؤل عن سبب التقاعس فيها، إذ بعد تكرار هذا الأمر مرّات ومرّات، فذلك يستدعي التساؤل عن سبب هذا الخوف والتردّد، وما إذا كان مرتبطاً بأي تعهداتٍ أو خطوطٍ حمراء، لا يجرؤ المسؤولون على المسّ بها.
بات واضحاً أنّ العملية السياسية ستستمر في سباتها العميق، فعلى ماذا سيراهن الرئيس؟ حتماً ليست المقاومة الشعبية السلمية، وهي التي كان يتم التلويح بها مع الحراك الدولي، ردّاً على دعوات الانتفاضة والمقاومة، فقد أفرغ التنسيق الأمني واستدعاء الناشطين، وعدم وجود أدنى دعم من مؤسسات السلطة لأي شكلٍ من المقاومة، هذا الشعار من محتواه.
الخيارات أمام الرئيس أحلاها مر، فثمّة ضغط داخلي تمثل برسالة من مجموعة من الكوادر تدعو إلى إنقاذ الوضع الداخلي لحركة فتح، لكنّ أولويات الرئيس تتمثل في استمرار اعتماده على الأجهزة الأمنية، في حين تتوالى الضغوط المصرية والإماراتية، وربما غيرها عليه؛ من أجل تحقيق مصالحةٍ داخليةٍ بينه وبين خصمه اللدود في المرحلة الحالية ورفيق دربه السابق، محمد دحلان، مقدمة لجهد عربي باتجاه السلام مع الإسرائيليين. ويدرك الرئيس تماماً أنّ مثل هذه الخطوة تعني بداية العد التنازلي لعهده، والتمهيد لمن سيفُرض بعده.
هل يهرب الرئيس محمود عباس من ضغوط المصالحة الداخلية مع خصومه إلى المصالحة مع حركة حماس، وفي هذه الخطوة ما قد يثير تعاطفاً شعبياً، ويجعله يكسب بعض الوقت، إلى أن تتضح الأمور، وربما يكون قد عبّر عن هذا، في خطابه الرمضاني، الذي دعا فيه إلى المحبة والتسامح والوحدة، إلّا أنّ الواضح أنّ الرئيس يرغب في حصد نتائج المصالحة، من دون تحقيقها فعلاً، بل لعله غير قادر وغير راغب بالمضي في هذا الاتجاه حتى النهاية.
تتلخص المشكلة الكبرى التي يواجهها الرئيس في اختلاف أوليات السياسة الصهيونية، فبداية حرصت السياسة الصهيونية منذ اتفاق أوسلو، ومن بعده، إعادة إنتاج هذا الاتفاق في بواكير عهد الرئيس محمود عباس، على أن تستخدم اتفاقها مع الفلسطينيين مدخلاً لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية، واعتقد بعض أقطاب السياسة الفلسطينية أنّ في وسعهم القيام بهذا الدور، وأنّ هذه المسألة تمثل إحدى نقاط قوتهم. تغيّرت، الآن، هذه المعادلة تماماً، فالسياسة الإسرائيلية الحالية تعتقد أنّ السلام مع الفلسطينيين منتجٌ ثانوي لسلام دافئ مع العرب، وأنّ الفرصة التاريخية تلوح الآن أمام العدو الصهيوني، للقيام بدورٍ رئيس في المحاور الإقليمية مع أقطار عربية متعدّدة، وأنّ الوقت قد حان لمزج المال العربي بالقدرة اليهودية، حسب تعبير ليبرمان.
في ظل هذا، ماذا يبقى في جعبة الرئيس عباس؟ أي دور يمكن أن تؤديه السلطة الفلسطينية في المرحلة الراهنة، بعد أن تبدلت السياسات، وتغيرت الأولويات وتغوّل الاستيطان، ولم يعد العدو ينظر إلى مؤسساتها إلّا ملحقاً ضمن إدارة الحكم العسكري في الأرض المحتلة.
ربما ثمّة رصاصة واحدة باقية، حتماً ليست في جعبة الرئيس، فقد تخلى عن الرصاص منذ زمن، هي رصاصة ما زال يحملها جيلٌ جديدٌ أثبت في تل أبيب أنّ الشهد والشهيد ينبع من عنب الخليل، ومن حجر طفلٍ في رحاب الأقصى. هي رصاصة لم تعثر عليها أجهزة الرئيس محمود عباس عند تفتيشها حقائب أطفال الضفة الغربية، لعلها الرصاصة الوحيدة الباقية في جعبتنا جميعاً.
فشلت المبادرة الفرنسية فشلاً ذريعاً في إحراز أي تقدم ولو طفيفا، وانتصر الرأي الصهيوني، وتم تسليم الضحية للقاتل، وتبخّر الحديث عن اعترافٍ فرنسي بالدولة الفلسطينية، وبدت فرنسا عاجزةً عن القيام بأي دورٍ ملموس في المنطقة. وبفشل المبادرة الفرنسية، طُوي إلى أجلٍ سيمتد حتى انتهاء الانتخابات الأميركية أي بحثٍ جدّي في هذه المسألة، لكنّ الأهم أنّ الرئيس محمود عباس استنفد، بفشل المبادرة الفرنسية، آخر الطلقات الموجودة في جعبته.
في أي اتجاهٍ سيتحرك الرئيس الآن؟ وقد اتضح أنّ أوروبا أضعف من أن تفرض مبادرةً، والولايات المتحدة التي فقدت مصداقيتها في رعاية المفاوضات السابقة مشغولةٌ ببيتها الداخلي وبانتخاباتها المرتقبة، أمّا روسيا فقضيتها المركزية في منطقتنا لا تتعدّى الأزمة السورية ورعاية الرئيس بشار الأسد، وليس أدل على ذلك من قصف الطائرات الصهيونية مستودعاتٍ مهمةٍ لحزب الله في قلب المنطقة الوسطى من سورية، حيث تتمركز الرادارات وقواعد الصواريخ الروسية، والأنكى أنّ هذا القصف، وهو أول قرار يتخذه وزير الدفاع الجديد أفيغدور ليبرمان، قد تمّ ونتنياهو يقف على أبواب موسكو في لقائه الرابع مع الرئيس بوتين خلال تسعة أشهر، وليستلم منه هديةً، وهي دبابة إسرائيلية، سبق أن أهدتها سورية لروسيا، بعد أن استولى الجيش العربي السوري عليها في معركة السلطان يعقوب سنة 1982. وستصبح هذه الدبابة، حسب قول نتنياهو، ضريحاً ومزاراً لعائلات ثلاثة من الجنود الصهاينة فقدوا في تلك المعركة الشهيرة.
أصبح الحراك الدولي الذي تقوم به السلطة الفلسطينية موضع شك، بل وتساؤلات عميقة، وتولدت قناعة راسخة بأنّ هدف البالونات التي تُطلق، بين حين وآخر، هو الاستهلاك المحلي،
بات واضحاً أنّ العملية السياسية ستستمر في سباتها العميق، فعلى ماذا سيراهن الرئيس؟ حتماً ليست المقاومة الشعبية السلمية، وهي التي كان يتم التلويح بها مع الحراك الدولي، ردّاً على دعوات الانتفاضة والمقاومة، فقد أفرغ التنسيق الأمني واستدعاء الناشطين، وعدم وجود أدنى دعم من مؤسسات السلطة لأي شكلٍ من المقاومة، هذا الشعار من محتواه.
الخيارات أمام الرئيس أحلاها مر، فثمّة ضغط داخلي تمثل برسالة من مجموعة من الكوادر تدعو إلى إنقاذ الوضع الداخلي لحركة فتح، لكنّ أولويات الرئيس تتمثل في استمرار اعتماده على الأجهزة الأمنية، في حين تتوالى الضغوط المصرية والإماراتية، وربما غيرها عليه؛ من أجل تحقيق مصالحةٍ داخليةٍ بينه وبين خصمه اللدود في المرحلة الحالية ورفيق دربه السابق، محمد دحلان، مقدمة لجهد عربي باتجاه السلام مع الإسرائيليين. ويدرك الرئيس تماماً أنّ مثل هذه الخطوة تعني بداية العد التنازلي لعهده، والتمهيد لمن سيفُرض بعده.
هل يهرب الرئيس محمود عباس من ضغوط المصالحة الداخلية مع خصومه إلى المصالحة مع حركة حماس، وفي هذه الخطوة ما قد يثير تعاطفاً شعبياً، ويجعله يكسب بعض الوقت، إلى أن تتضح الأمور، وربما يكون قد عبّر عن هذا، في خطابه الرمضاني، الذي دعا فيه إلى المحبة والتسامح والوحدة، إلّا أنّ الواضح أنّ الرئيس يرغب في حصد نتائج المصالحة، من دون تحقيقها فعلاً، بل لعله غير قادر وغير راغب بالمضي في هذا الاتجاه حتى النهاية.
تتلخص المشكلة الكبرى التي يواجهها الرئيس في اختلاف أوليات السياسة الصهيونية، فبداية حرصت السياسة الصهيونية منذ اتفاق أوسلو، ومن بعده، إعادة إنتاج هذا الاتفاق في بواكير عهد الرئيس محمود عباس، على أن تستخدم اتفاقها مع الفلسطينيين مدخلاً لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية، واعتقد بعض أقطاب السياسة الفلسطينية أنّ في وسعهم القيام بهذا الدور، وأنّ هذه المسألة تمثل إحدى نقاط قوتهم. تغيّرت، الآن، هذه المعادلة تماماً، فالسياسة الإسرائيلية الحالية تعتقد أنّ السلام مع الفلسطينيين منتجٌ ثانوي لسلام دافئ مع العرب، وأنّ الفرصة التاريخية تلوح الآن أمام العدو الصهيوني، للقيام بدورٍ رئيس في المحاور الإقليمية مع أقطار عربية متعدّدة، وأنّ الوقت قد حان لمزج المال العربي بالقدرة اليهودية، حسب تعبير ليبرمان.
في ظل هذا، ماذا يبقى في جعبة الرئيس عباس؟ أي دور يمكن أن تؤديه السلطة الفلسطينية في المرحلة الراهنة، بعد أن تبدلت السياسات، وتغيرت الأولويات وتغوّل الاستيطان، ولم يعد العدو ينظر إلى مؤسساتها إلّا ملحقاً ضمن إدارة الحكم العسكري في الأرض المحتلة.
ربما ثمّة رصاصة واحدة باقية، حتماً ليست في جعبة الرئيس، فقد تخلى عن الرصاص منذ زمن، هي رصاصة ما زال يحملها جيلٌ جديدٌ أثبت في تل أبيب أنّ الشهد والشهيد ينبع من عنب الخليل، ومن حجر طفلٍ في رحاب الأقصى. هي رصاصة لم تعثر عليها أجهزة الرئيس محمود عباس عند تفتيشها حقائب أطفال الضفة الغربية، لعلها الرصاصة الوحيدة الباقية في جعبتنا جميعاً.