ماذا بعد الكورونا البيولوجي؟

12 مارس 2020
الحرب النفطية تهدد مستقبل الصناعة النفطية (فرانس برس)
+ الخط -
لو تأملنا في الذي يجري داخل أسواق النفط في الأسواق العالمية، لوقعنا في حيرة كبيرة، فالنفط تتراجع أسعاره بدرجة عالية، حتى وصل إلى حدود لا يمكن لأحد أن يتوقعها، وبهذه السرعة، فالأسعار فقدت نحو 30% من قيمتها يوم الاثنين الماضي، وخام برنت قد وصل صباح يوم الثلاثاء (أول من أمس) إلى 37 دولاراً، وحتى دون ذلك، في الوقت الذي كانت التوقعات تقول إن السعر المرجعي (benchmark) لن يقل عن 50 دولاراً للبرميل.

وقد عُزّي السبب الرئيس في هذا التدهور في أسعار النفط إلى فشل الاتفاق داخل منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، حيث إن بعض أعضائها يقول إنه قد وصل إلى حدٍّ لا يمكنه أن يقبل تخفيضاً آخر.

لكن الأهم هو الخلاف بين المملكة العربية السعودية، أكبر منتج داخل أوبك، وروسيا ثاني أكبر منتج من الدول خارج "أوبك"، والذي ظهر في الاجتماع الأخير لتحالف "أوبك +" الذي عقد بفيينا يومي الخميس والجمعة الماضيين، وقد بدت بذور الخلاف منذ الاتفاق على آخر تخفيض في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، حيث اتفق على تخفيض الإنتاج في روسيا و"أوبك" بنحو ستمائة ألف برميل يومياً، وحينها صرّحت روسيا بأنها لن تجري تخفيضاتٍ إضافيةً على إنتاجها.

ومن جانب العرض، فإن دولا كثيرة، منتجة ومُصدّرة للنفط الخام، تواجه حصاراً أو ظروفاً داخلية، تحول دون وصول إنتاجها إلى الحدود الممكنة، لو كانت الظروف التي تواجهها إعتيادية، مثل إيران، والعراق، واليمن، وليبيا، وفنزويلا.
ولذلك، فإن المعروض من النفط قد تراجع. ولكن في المقابل، ظل سعر النفط يتراجع، والسبب أن الطلب تراجع بمعدلات كبيرة، فمن ناحيةٍ، هنالك داء الكوفيد 19 (فيروس كورونا)، والذي يزداد تأثيره اتساعاً وعمقاً يوماً بعد يوم.

ولا يكاد يمرّ يوم إلا ونسمع عن إيقافٍ للسفر البري والبحري والجوي، وإغلاقات للحدود، ومنع استقبال القادمين من دولٍ ارتفعت فيها أعداد المصابين، وتشدّد في منع المباريات الرياضية، وانتقلت حالة المرض من هَمٍّ عالمي إلى هَمٍّ وطني، وصارت الدول لا تفرض قيوداً على القادمين من دول أخرى فقط، بل وعلى مواطنيها أيضا. ولذلك صارت آثاره تعض على أعصاب الاقتصادات المحلية.

وانتقل المواطنون والقاطنون داخل الدول القُطرية من حالة الانصياع للقرارات الحكومية لمنع انتشار الفيروس إلى حال التطوع بذلك. وفي الأردن، على سبيل المثال، تطلب وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي من كل مدرسة وجامعة التحول من حالة التعليم المباشر داخل الصفوف، إلى التدريس الإلكتروني، والكل جالس في منزله، في حال دعت الضرورة إلى ذلك.

ومن هنا، سيقود إيقاف الحركة، وشل الإنتاج، والامتناع عن ورود الأماكن المزدحمة، بالطبع، إلى تقليل الطلب على النفط ومشتقاته.

وبسبب التراجع في الطلب العالمي على النفط، سيتراجع الدخل من الإنتاج، والنقل، والسياحة، والشراء من الأسواق. ولهذا، بدأت التنبؤات بحصول كساد تضخمي تتراجع، وعُدّلت هذه التوقعات لتقول إن العالم مرشّح للدخول في دورة الهبوط والتراجع (Deep recession).
وقبل أسبوع تقريباً، قام صندوق النقد الدولي بتعديل توقعاته للنمو عام 2020 من 3.3% سنوياً إلى 3.0%، فقط. وأنا واثق إن استمر الحال شهرا على ما هو عليه، فإن الصندوق سيعدّل توقعاته إلى أدنى من ذلك بكثير.

وتأكيداً لهذه النقطة، دعنا ننظر قليلاً في أسعار الفوائد العالمية. لقد ضغط الرئيس الأميركي دونالد ترامب على المجلس الاحتياطي الفدرالي "البنك المركزي الأميركي"، لكي يخفض أسعار الفائدة، نوعا من التيسير الكمي (Quantitative easing)، وخارج أوان التخفيض المعهود.

وقد استجاب البنك للضغوط قبل أسبوعين، وخفض نسبة الفائدة التي يتقاضاها من البنوك التجارية بنصف نقطة مئوية. واستجابت أسواق البورصات لانخفاض كلف التمويل بالإقبال على شراء الأسهم والأوراق المالية، فارتفعت البورصة ليوم واحد، وعادت إلى الانخفاض.

وقد حَذَتْ معظم الدول حذو الولايات المتحدة في تخفيض أسعار الفوائد على عملاتها. ولكن ذلك لم يُحدِث الأثر المطلوب من زيادة الإقبال على الاتجار بالأصول المالية أو بسندات الديْن، ورأينا الأسواق في حالة هبوط، وإن أبدت، بين وقت وآخر، همة لا تدوم، ثم تعاود سيرتها نحو الهبوط.

وإذا نقص الطلب على المال، واستمرت الشركات في المعاناة من تراجع الطلب، فقلّت أرباحها، وازدادت توقعات المشترين والمضاربين والمنتجين تشاؤماً في الفترات القادمة، فلا شك أن هذا سيعمّق حفرة التراجع الاقتصادي. وبمعنى آخر، فإن نسب البطالة والفقر مرشحة للارتفاع، ما يضع أعباء إضافية على الحكومات، خصوصا المنطقة العربية، لارتفاع نسب الشباب فيها قياساً إلى عدد السكان.
وفي ظل التوترات السياسية والأمنية والعسكرية التي تغلّف منطقتنا العربية، وزيادة حدّة الخلاف بين أصحاب الأمر والشعوب، والتوتر المشتد في الصراع على الحكم في بعض الدول، إما بين المطالبين بحق الحكم أو بين الأحزاب، فإن الدول العربية ستواجه كورونا سياسية من نوع أشد وأكثر تدميراً، وهي الفتنة الكبرى (حسب تعبير طه حسين)، والتي قد تؤدّي إلى حروبٍ أهلية طويلة الأمد.

وبدلاً من أن يقف الوطن العربي في هذه الظروف متكاتفاً وصفاً مرصوصاً، نرى أن مساحة الخلاف تشتد، وتتحوّل من خلافٍ سياسي إلى حرب وكره وانتقام لا يعلم نهايته أحد. وآن للعقلاء أن ينتبهوا إلى أن موارد الوطن العربي وميزاته النسبية قد بدأت تتقلص في ظل ما يجري في العالم من تراجع اقتصادي.

لا تجري جامعة الدول العربية دراسات، وليس لها توقعات. ومؤسساتها الفكرية والعلمية والمالية لا يصدر عنها أي شيء، فهي مشلولة. إن دور البحث القُطرية، والخاصة منها، أكثر نشاطاً وهمة في رصد الحالة السياسية والاقتصادية والأمنية، وأحسن تشخيصاً.
دلالات
المساهمون