مائة عام على الحكومة العربية في دمشق .. مَلَكية مقيدة ودستور علماني

23 يوليو 2020

الملك فيصل بن الحسين في سورية بين وزرائه ومعاونيه (1920 Getty)

+ الخط -

حدث في 24/7/1920، أي منذ مائة سنة بالتمام، أن الاستعمار الفرنسي حطّم أحد أجمل الأحلام العربية، فدخل إلى دمشق عنوة وقهرًا بعد معركة ميسلون الخالدة، وأنهى الحكم الفيصلي فيها وحل الحكومة العربية، وشرع في تقسيم سورية على أسس طائفية، فأنشأ دولة للعلويين ودولة للدروز ودولتين للسُنّة (دمشق وحلب) وسنجقاً مختلطًا في الجزيرة (دير الزور – الحسكة)، وأعلن قيام دولة لبنان الكبير، لتكون دولة للموارنة بالدرجة الأولى، وكان ذلك كله تمهيدًا لتأسيس دولة لليهود في فلسطين. وفي السنوات اللاحقة، أطلق سوريون وعراقيون كثيرون اسم "ميسلون" على بناتهم، تذكارًا لذلك اليوم المهيب الذي تصدّى فيه السوريون للجحافل الفرنسية عند موقع خان ميسلون الذي استشهد فوق ثراه البطل يوسف العظمة. 

كانت الحكومة العربية في دمشق تجسيداً رائعاً لليقظة العربية التي انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر بعد ركود طال، ورُقاد تطاول في ظل الحكم التركي الذي امتد 400 سنة. واليقظة العربية تلك تمكّنت، من دون قصد، من تفكيك الرابطة الإسلامية التي استُخدمت باستمرار لتأبيد سيطرة الأتراك على العرب. آنذاك، صارت دمشق قبلة العرب وعاصمتهم ومهوى أفئدتهم وحاملة بيارق العرب كلهم وتطلعاتهم إلى الوحدة والحرية الاستقلال، وتجمّع فيها، بعد دخول الأمير فيصل بن الحسين، رجالات العرب كلهم تقريبًا. فمن العراق: ياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجعفر العسكري ومولود مخلص وجميل المدفعي وعلي جودة الأيوبي وناجي السويدي وتوفيق السويدي ونوري السعيد وتحسين العسكري وتحسين علي وثابت عبد النور وإسماعيل نامق ورشيد الخوجة وإبراهيم كمال. ومن فلسطين: الحاج أمين الحسيني وعوني عبد الهادي ومحمد عزة دروزة ومعين الماضي وعبد القادر المظفر وسعيد الكرمي وأحمد حلمي عبد الباقي وصبحي الخضراء واسحق البديري وسعيد الحسيني ومحمد علي التميمي وإبراهيم هاشم. ومن لبنان: عادل أرسلان ورشيد طليع ورستم حيدر وفؤاد سليم وسعيد عمون وأسعد داغر ورشيد الحسامي وتوفيق الناطور ورضا الصلح ورياض الصلح. ومن سورية: هاشم الأتاسي وإبراهيم هنانو وصبحي بركات ومظهر رسلان وإحسان الجابري وأحمد مريود ومحمود الفاعور ومصطفى الشهابي، وكامل القصاب وعبد الرحمن الشهبندر وخالد الحكيم وشكري القوتلي وسلطان الأطرش ونبيه العظمة وخير الدين الزركلي وفخري الباروي ويوسف العظمة وفارس الخوري وساطع الحصري ونجيب شقير وجميل مردم. وهؤلاء وغيرهم تمكنوا من تأسيس حكومة جسدت الحلم العربي البهي الذي كان النقيض المباشر للإقليمية والطائفية، ومثّل الخلاصة الباهرة لفكرة المواطنة المتساوية في دولة عصرية ديمقراطية. فسورية آنذاك كان الملك فيها حجازيًا (الملك فيصل)، ورئيس برلمانها الموقت مصريًا من أصول لبنانية (رشيد رضا)، وقائد جيشها عراقياً (ياسين الهاشمي)، ووزير داخليتها لبنانيًا (رضا الصلح)، ووزير خارجيتها فلسطينيًا (سعيد الحسيني)، وحكام المناطق يتحدّرون من معظم بقاع العراق وبلاد الشام، والجميع سوريون، ولا أحد يستهجن ذلك قط. ومدينة دمشق نفسها التي كان حاكمها سُنيّاً دمشقيًا (علي رضا الركابي) لم تجد أي غضاضةٍ في أن يكون رئيس مجلس الشورى العسكري فيها سُنّيًا من بغداد (ياسين الهاشمي)، وأن يكون رئيس العدلية مسيحيًا من دير القمر (اسكندر عمّون)، ورئيس المالية مسيحيًا من الشويفات (سعيد شقير)، ورئيس الأمن العام مسيحيًا من طرابلس (جبرائيل حداد)، ورئيس الخارجية مسيحيًا من دمشق (توفيق شامية) ورئيس الصحة مسيحيًا من عبيه في جبل لبنان (سليم موصلّي). حتى إن محكمة الاستئناف العليا التي تطبق أحكامًا مستمدة من الشريعة الإسلامية، خصوصًا في قضايا الأحوال الشخصية (الإرث والوصية والزواج) كانت تتألف، في إحدى مراحل تلك الحقبة، من ثلاثة قضاة مسيحيين: نجيب الأميوني رئيسًا (من حاصبيا)، وأسعد أبو شعر (من دمشق)، وفايز الخوري (من الكفير). 

لم ينص دستور المملكة العربية السورية على دين الدولة، بل اكتفى بأن "دين الملك هو الإسلام"، وأن حكومة الملك مدنية نيابية

لم ينص دستور المملكة العربية السورية الذي صدر في 13/7/1920، أي منذ قرن كامل، على دين الدولة، بل اكتفى بالنص على أن "دين الملك هو الإسلام"، وأن حكومة الملك هي حكومة مدنية نيابية. ونصّ، فوق ذلك، على عدم جواز تكليف أي شخصٍ من الأسرة المالكة تولّي الوزارة، ومنعَ النواب من عقد المقاولات مع الحكومة أو البلديات، أو حتى الاشتراك في المناقصات مباشرة أو مع الغير، ولا تجتمع الوظيفة والنيابة في شخص واحد، وكذلك رئاسة المحكمة والوظيفة. وللأسف، لم تُختبر تلك الحكومة في الميدان العملي، لأن المستعمرين الفرنسيين، وهم أسوأ ما عرفته البشرية من صنوف الاستعمار (شاهدُنا على ذلك ما فعله الفرنسيون في الجزائر وفيتنام وكمبوديا ولاوس على سبيل المثال) بادروا إلى احتلال دمشق، وألغوا الحكومة العربية فيها، ونصّبوا أعوانهم حكامًا اسميين على الدويلات السورية المزعومة. 

البدايات 

لم تكن العائلة الهاشمية في الحجاز ذات اتجاه قومي عربي، ولم يكن لها أي اتصال بالحركة القومية العربية التي ظهرت في إسطمبول ودمشق، لأن الهم الأساس للشريف حسين كان، قبل عام 1915، مقاتلة عبد العزيز بن سعود في نجد، علاوة على الإمام يحيى في اليمن، وابن الرشيد في حائل، ومحمد الإدريسي في عسير، وهؤلاء أشعلوا التمردات على السلطنة العثمانية، وتولى الشريف حسين بن علي، بتكليف من السلطنة التي كانت عينته شريفًا على مكة في سنة 1908، إخماد تلك التمردات طوال سنة 1913. والحقيقة أن الإنكليز كانوا وراء فرض الشريف حسين بن علي (عينته السلطنة شريفًا على مكة في سنة 1908) على الحركة القومية العربية لقيادة الثورة على الأتراك العثمانيين. وجرى اختيار مكة مكانًا لانطلاق الثورة بسبب بُعدها عن مركز السلطنة، وعدم وجود حامياتٍ تركيةٍ فيها خلافًا لدمشق التي تعجّ بالجند. وكانت لبريطانيا مصالح جمّة في الجزيرة العربية، مثل خطوط مواصلاتها مع الهند، وبالتحديد قناة السويس، وكذلك النفط المكتَشَف حديثًا في العراق والجزيرة العربية. أما اختيار الأمير فيصل قائدًا للقوات العربية التي دخلت مع قوات الجنرال أللينبي إلى الشام، فكان استمرارًا لاختيار والده قائدًا لقوات الثورة العربية في عام 1916. ثم إن فيصل كانت له اتصالات بجمعيتي "العربية الفتاة" و"العهد". وقد انضم فيصل في دمشق في سنة 1915 إلى "جمعية العهد"، وكان انضمامه رمزيًا، ويعني قبوله ووالده الشريف حسين عمليًا المطالب القومية العربية. آنذاك، اتفق فيصل مع الزعماء القوميين العرب على أن يعلن والده الثورة ضد تركيا، وتسلّم منهم ميثاقًا يتضمن مطالبهم، ويرسم حدود البلاد العربية في آسيا الساعية إلى الوحدة والاستقلال. واتفق الجميع على أن تكون حدود المملكة العربية العتيدة كالتالي: من خط مرسين وأضنة (مرسين وأضنة مدينتان سوريتان قبل إلحاقهما قسرًا بتركيا) إلى حدود إيران شرقًا، ثم جنوبًا إلى الخليج العربي (على أن تكون الأحواز أو خوزستان أو عربستان ضمن حدود المملكة العربية)، ثم نحو المحيط الهندي، وغربًا على امتداد البحر الأحمر حتى البحر المتوسط، فإلى مرسين شمالاً عبر المدن الساحلية السورية وهي غزة ويافا وعكا وصور وصيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية. 

لم تكن العائلة الهاشمية في الحجاز ذات اتجاه قومي عربي، ولم يكن لها أي اتصال بالحركة القومية العربية التي ظهرت في إسطنبول ودمشق

وصلت القوات العربية إلى ضواحي دمشق في 30/9/1918، ثم دخلت إلى دمشق في 1/10/1918، وتبعها موكب الأمير فيصل في 2/10/1918 الذي دخل دمشق من طريق حي الميدان، وكان خيالة الدروز وعشيرتي الرولى والحويطات يحفّون به، علاوة على بعض الضباط العراقيين والسوريين. وفي تلك الأثناء، وبالتحديد في 30/9/1918، أعلن الأمير محمد سعيد الجزائري الحكومة العربية في دمشق باسم الشريف حسين بن علي. وكان الأتراك قد عيّنوا سعيد الجزائري حاكمًا لدمشق، قبيل انسحابهم من المدينة نحو الشمال. فبادر الأمير سعيد وشقيقه الأمير عبد القادر (حفيد المجاهد عبد القادر الجزائري) إلى تنظيم فرقةٍ من المغاربة للمحافظة على الأمن وتنظيم عمل الإدارات الحكومية الرسمية. واجتمع بعض أعيان دمشق في دار البلدية في ساحة المرجة، وألّفوا مجلسًا للشورى، واختاروا الأمير سعيد رئيسًا للحكومة العربية المؤقتة، ورفعوا العلم العربي على بعض المقارّ الرسمية. ومع دخول فيصل إلى المدينة، عين اللواء شكري الأيوبي حاكمًا لولاية بيروت ولجبل لبنان، فأُعلنت في الأثر الحكومة العربية في بيروت في 6/10/1918 برئاسة عمر الداعوق. وفي 8/10/1918 ذهب شكري الأيوبي، ومعه رستم حيدر وجميل الإلشي، إلى بعبدا التي كانت مقرًا لسنجق جبل لبنان، وهناك أعلن حبيب باشا السعد مبايعته الأمير فيصل. لكن الجنرال أللينبي رفض ما جرى في جبل لبنان، وأنهى بالقوة مهمة شكري الأيوبي، وأنزل العلم العربي عن مقرّ الحكومة العربية في بيروت (مبنى البلدية) وعن مقرها في بعبدا (مبنى المتصرفية). وتكرر الأمر نفسه في دمشق حين بادرت القيادة العامة لقوات الحلفاء في سورية، بموافقة الأمير فيصل، إلى تنحية سعيد الجزائري، وتعيين اللواء علي رضا الركابي في 5/11/1918 حاكمًا عسكريًا لدمشق، واللواء شكري الأيوبي نائبًا له. 

ملكًا دستوريًا لمئة يوم 

في 7/3/1920 أقرّ المؤتمر السوري العام المنعقد في 6/3/1920 برئاسة هاشم الأتاسي انتخاب الأمير فيصل ملكًا دستوريًا على سورية بحدودها الطبيعية المتفق عليها مع فيصل منذ عام 1915، وفي اليوم التالي بدأت مبايعة فيصل. وكان المؤتمر السوري العام في منزلة برلمان سورية الذي لم يعترض عليه أحد منذ تأليفه. وفكرة المؤتمر السوري العام بدأت لدى أعضاء حزب الاستقلال العربي وهم، في معظمهم، أعضاء جمعية العربية الفتاة سابقًا. وكانت اللجنة السرية لحزب الاستقلال تتألف من أعضاء "العربية الفتاة"، فيما أعضاء اللجنة العلنية كانوا كالتالي: الأمير فيصل وشقيقه الأمير زيد وياسين الهاشمي وكامل القصاب وشكري القوتلي وإبراهيم هنانو والأمير عادل أرسلان وخير الدين الزركلي ورفيق التميمي ومحمد عزة دروزة وعوني عبد الهادي والحاج أمين الحسيني ونبيه العظمة وأحمد مريود وسعيد حيدر ومعين الماضي وجميل مردم وخالد الحكيم ورضا الركابي وعبد الرحمن الشهبندر ويوسف العظمة. 

كان المؤتمر السوري العام في منزلة برلمان سورية الذي لم يعترض عليه أحد منذ تأليفه

بلغ عدد أعضاء المؤتمر السوري العام 107 أعضاء يمثلون مناطق سورية كلها: فلسطين والأردن وبيروت وجبل لبنان وأنطاكيا، أي سورية قبل التقسيم. وهذا المؤتمر افتُتح في 1/6/1919 برئاسة رشيد رضا في مقر النادي العربي بدمشق، وصارت جلساته مفتوحة ودورية على غرار برلمانات العالم. ومن بين أعضاء المؤتمر تمثلت فلسطين بخمسة وعشرين عضوًا، أي ما يقارب ربع عدد الأعضاء، هم: أمين الحسيني وعارف العارف ومحمد عزة دروزة وإبراهيم القاسم وعادل زعيتر وأمين التميمي ورفيق التميمي وسعيد الحسيني وعارف الدجاني ويعقوب فرّاج وراغب الدجاني ويوسف العيسى ورشيد الحاج إبراهيم ومعين الماضي وإبراهيم العكي وعبد الفتاح السعدي وطاهر الطبري ويوسف العاقل وصلاح الدين قدورة وعبد الرحمن النحوي وحسين الزعبي وسليم عبد الرحمن وسعيد الكرمي ورشدي الشوا وسعيد مراد. واتخذ المؤتمر، في جلسته المنعقدة في 7/3/1920، قرارًا ينص على استقلال سورية بحدودها الطبيعية، وإعلان الأمير فيصل ملكًا دستوريًا عليها، واعتماد العلم العربي ذي الألوان الأربعة علمًا لسورية الجديدة. وقد أوجز صفي الدين الحِلّي ألوان العلم العربي في قصيدته "سلي الرماح العوالي عن معالينا" فقال: بيضٌ صنائعنا سود وقائعنا/ خضر مرابعنا حمر مواضينا.

ما إن انتهت عملية مبايعة فيصل ملكًا على سورية حتى بادر إلى تأليف حكومة في 27/3/1920 برئاسة علي رضا الركابي التي ضمّت علاء الدين الدروبي (رئيسًا لمجلس الشورى) ورضا الصلح من صيدا (للداخلية) وسعيد الحسيني من القدس (للخارجية) وعبد الحميد قلطقجي (للحربية) وفارس الخوري (للمالية) وجلال الدين زهدي (للعدل) وساطع الحصري (للمعارف) ويوسف الحكيم (للزراعة والتجارة والنافعة، أي الأشغال). وفي الفترة نفسها، وبالتحديد في 8/3/1920 (يوم مبايعة فيصل)، اجتمع في دمشق عدد من العراقيين، وانتدبوا أنفسهم لتمثيل جميع العراقيين، وأعلنوا استقلال العراق واتحاده بسورية سياسيًا واقتصاديًا، ونادوا بالأمير عبد الله بن الحسين ملكًا دستوريًا على العراق. 

أخافت الحوادث الجارية في دمشق قوات الحلفاء في المشرق العربي، فسارع الحلفاء إلى إجهاض الدعوات الاستقلالية العربية الجديدة التي انطلقت من دمشق لتعم سورية والعراق

أخافت وقائع الحوادث الجارية في دمشق آنذاك قوات الحلفاء في المشرق العربي، فسارع الحلفاء إلى إجهاض الدعوات الاستقلالية العربية الجديدة التي انطلقت من دمشق لتعم سورية والعراق. وكان أن اتخذ الحلفاء في مؤتمر سان ريمو يوم 26/4/1920 قرارًا بفرض الانتداب البريطاني والفرنسي على سورية، وهو ما كان متفقًا عليه سرًا. ولم يطل الأمر حتى وجّه الجنرال غورو، بالتواطؤ مع البريطانيين، إنذارًا إلى الملك فيصل في 14/7/1920 يُرغمه فيه على وضع سكة حديد رياق – حلب تحت تصرّف الجيش الفرنسي الذي كان يُواجه بمقاومة في كيليكيا، وإلغاء التجنيد العسكري الإلزامي الذي اعتمدته الحكومة العربية في دمشق، وقبول الانتداب الفرنسي على سورية، واعتماد النقد الورقي الذي بدأ المصرف السوري يصدره تحت إدارة الفرنسيين، وتأديب "المجرمين المعادين" لفرنسا (يقصد بذلك معارضي الانتداب الفرنسي). ومع أن الملك فيصل قبل الإنذار، وبدأ تسريح الجيش العربي، إلا أن الجنرال غورور أصرّ على احتلال دمشق بالقوة، فتصدّى له ما بقي من القوات النظامية وأعداد من المتطوعين بقيادة يوسف العظمة (وزير الدفاع في حكومة هاشم الأتاسي) في معركةٍ بطوليةٍ افتقدت إلى الحد الأدنى من توازن القوة العسكرية. وقد استشهد يوسف العظمة على ثرى بلاده في موقعة خان ميسلون على الطريق الواصل بين دمشق وبيروت. ولم يكتفِ الجنرال الاستعماري الفرنسي غورو بذلك، بل سلّم الملك فيصل في 27/7/1920 إنذارًا جديدًا يبلغه فيه، بصيغة التهديد، ضرورة مغادرة دمشق في غضون أربع وعشرين ساعة، فغادرها إلى حوران ومنها إلى حيفا فأوروبا حتى قرر البريطانيون تسليمه عرش العراق. 

الطور الجديد

دخل موكب الجنرال المتغطرس غورو دمشق، وكان إلى جانبه للأسف فرسان من عشيرة نوري الشعلان (الرولى). وبهزيمة الملك فيصل والحكومة العربية، تشتت رجال العرب والقوميون الأوائل في كل مكان. بعضهم التحق بالملك فيصل في العراق، أمثال رستم حيدر وتحسين قدري، وآخرون التحقوا بأخيه الملك عبد الله في إمارة شرق الأردن، أمثال علي رضا الركابي الذي تولى رئاسة أول حكومة أردنية، ورشيد طليع الذي صار ثاني رئيس لحكومة الأردن. ومنهم من عاد إلى مصر مثل أسعد داغر، وبقي كثيرون في دمشق: قسم تعاون مع الفرنسيين، مثل علاء الدين الدروبي (اغتاله الوطنيون السوريون مع عبد الرحمن اليوسف، ونجا الجنرال غورو من الموت بمعجزة)، وقسم أبى إلا أن يتابع النضال ضد الاحتلال الفرنسي، أمثال سلطان الأطرش وعبد الرحمن الشهبندر وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي وعادل أرسلان. ولا ريب في أن معظم الحركات القومية التي نشأت لاحقاً كانت من بين الثمار التي زرعها القوميون الأوائل في دمشق، ومنها جمعية التحرير العربية التي أسسها في سنة 1929 فريد زين الدين (سوري من أصل لبناني) ودرويش المقدادي (فلسطيني) ونافع شبلي (سوري). وتمكّنت تلك الجمعية من أن تضم إليها كاظم الصلح وتقي الدين الصلح وعادل عسيران ومحمد علي حمادة وعلي بزي (من لبنان) وشوقي الدندشي من سورية. وعلى غرارها ظهرت عصبة العمل القومي في سنة 1933، وكان من أركانها علي ناصر الدين وفريد زين الدين وعبد الرزاق الدندشي وزكي الأرسوزي. وكذلك الحركة العربية السرية التي أسسها قسطنطين زريق وفؤاد مفرج وشفيق جحا، وضمت إليها درويش المقدادي وواصف كمال ويونس السبعاوي وصدّيق شنشل وناجي معروف والعقداء العراقيين الأربعة الذين أعدمهم الانكليز بعد فشل ثورة مايس (مارس/ آذار) 1941 في بغداد، وهم: صلاح الدين الصباغ ومحمود حسن سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب.