مئوية استقلال سورية: مقاربة ما بعد كولونيالية

24 مارس 2020
الأمير فيصل خلال مفاوضات 1919 في قصر فرساي (Getty)
+ الخط -

مرّت مئوية إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية في الثامن من مارس/آذار 1920، وما تمخض عن ذلك من انتخاب الأمير فيصل "ملكاً دستورياً" على رأس نظام نيابي ديمقراطي يقوم على اللامركزية والشروع في إقرار "القانون الأساسي" الذي كان رائداً في مضمونه، دون أن تعني شيئاً لـ"مجلس الشعب" في سورية الذي كان يجب على الأقل أن يحيّي بهذه المناسبة سلفه "المؤتمر السوري".

ومع انشغالات المؤرخين السوريين والعرب عن مراجعة هذه التجربة التاريخية المهمة في ذكراها المئوية، يبدو من المفيد الاطلاع على ما نشره المؤرخون الأوروبيون في هذا المجال. ومن ذلك كتاب "المعركة في سبيل سورية 1918-1920" الذي صدر أخيراً للمؤرخ البريطاني جون د. غرينجر (1933)، وفيه يعاين التجربة ونتائجها ضمن مقاربة ما بعد كولونيالية: ما هو دور القوى الكولونيالية في إفشال التجربة، وما الذي تعلمته الأنظمة التي جاءت بعد الاستقلال من الأنظمة الكولونيالية؟

يتميّز هذا الكتاب عن غيره بكون مؤلّفه من المتخصّصين في التاريخ العسكري للمنطقة منذ الألف الأولى قبل الميلاد وحتى مطلع القرن العشرين، وبالتحديد من أوائل كتبه "فينيقيا الهلنستية" (1991) وحتى "نشوء الإمبراطورية السلوقية" (2014) مروراً بـ "المعركة في سبيل فلسطين 1917" (2006) و"الإسكندر: الفشل الكبير" (2007) وغيرها.

ومن ناحية أخرى يتميّز هذا الكتاب عن غيره من المؤلفات التي تناولت تجربة الحكومة العربية بدمشق 1918-1920 بكونه كُتب خلال الحراك الشعبي المطالب بالديمقراطية (2011-2013)، ولذلك يسوّق في الغلاف بكونه يتناول "المطامع الإمبريالية تجاه الطموحات القومية العربية لتشكيل سورية التي يجرى الصراع حولها الآن"، وهو ما انتهى إليه المؤلف في الخاتمة برأيه النقدي عن الدور السلبي لبريطانيا وفرنسا بخنق التجربة الديمقراطية العربية الأولى خلال 1918-1920.

ويبدو من عنوان الكتاب (المعركة في سبيل دمشق) أن الموضوع يدور حول ثلاثة مستويات أو بين ثلاثة أطراف: الأول، حرب الحلفاء (بريطانيا وفرنسا والعرب) ضد الأتراك والألمان بعد فشل الحملة على السويس وتحوّل الدفاع إلى هجوم عبر سيناء إلى فلسطين ومنها إلى دمشق، التي كانت تعني الكثير لكل الأطراف.

أما المستوى الثاني فهو الحرب الخفية بين بريطانيا وفرنسا لتقاسم بلاد الشام على الأرض خلال 1918 و1919 بعد أن جرى تقاسمها على الورق في 1916 (اتفاقية سايكس – بيكو) حين كانت بيد العثمانيين. ويتمثّل المستوى الثالث في الصراع الذي تتوّج بالحرب (معركة ميسلون) بين فرنسا التي كانت تصرّ على "حقها" في بلاد الشام كما وردت في اتفاقية سايكس- بيكو وبين النخبة القومية العربية التي شاركت في تحرير دمشق في 1918 وسارعت إلى الإعلان عن تشكيل "حكومة عربية ديمقراطية" في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1918 وصولاً إلى إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية في 8 مارس 1920 واختيار الأمير فيصل ملكاً دستورياً عليها.

في هذا السياق، يُبرز المؤلف موقف فرنسا "التي كانت تدّعي بوجود مصالح لها في بلاد الشام أكثر من أية دولة أوروبية"، ولذلك، ومع بداية العمليات العسكرية في الحرب العالمية الأولى، حرصت باريس على ضمان "حقها" في بلاد الشام باتفاقية سرية مع لندن. وتحت إصرار باريس، تركت لندن المبادرة بين دبلوماسيين على مستوى منخفض إلى أن صادقت الحكومات على "اتفاقية سايكس – بيكو" في مايو/أيار 1916، أي في الوقت الذي كانت فيه لندن قد توصّلت إلى تفاهم مع شريف مكّة حسين بن علي. ويُبرز المؤلف هنا أن لندن كانت تعتبر هذه الاتفاقية أولية، كما هو الأمر مع ما انتهت إليه مع الشريف حسين، أي أنها تركت الأمور مفتوحة حسب نتائج الحرب، ولذلك خاضت لندن وباريس في نزاع دبلوماسي خلال 1919 حول تطبيق اتفاقية سايكس- بيكو أدى إلى رسم خريطة مختلفة للشرق الأوسط الجديد.

مع التحول من الدفاع إلى الهجوم عبر سيناء بقيادة الجنرال ألنبي، تُرك لـ "الجيش العربي الشمالي" بقيادة الأمير فيصل بن الحسين مهمة التقدم على الجناح الشرقي باتجاه درعا. وبعد عبور نهر الأردن (الذي أطلق اسمه على الجسر الواصل بين ضفتي النهر) قرّر الجنرال ألنبي خطة المعركة بالنسبة لدمشق في 25 أكتوبر 1918 وأعلم بذلك الأمير فيصل.

وهنا يُبرز المؤلف دور الضابط البريطاني لورنس "الذي كان قد تبنّى القضية العربية وأصبح يعتبرها قضيته"، ورأيه في ضرورة إحراز العرب لهدف قيّم يبرّر حصولهم على مكافأة مجزية بعد الحرب. كان لورنس يرى أن دمشق هي الهدف المناسب، ولذلك وافق الجنرال ألنبي على منح هذه الفرصة للجيش العربي بدخول دمشق من جهة الجنوب في الوقت الذي كانت فيه قواته تلتف حول دمشق لتلاحق الجيش العثماني المنسحب.

في هذه المناسبة يعتبر المؤلف أن النقاش حول من دخل دمشق أولاً في فاتح أكتوبر 1918 سيبقى مفتوحاً، ولكنه يركز على أولوية كل طرف. فقد اكتفى العقيد أولدن الذي وصل إلى مقر الحكم العثماني (السراي) بطلب دليل يرشده إلى طريق حمص لملاحقة القوات العثمانية، بينما كانت أولوية القوة العربية التي وصلت إلى السراي "تأسيس حكومة تكون حجة لهم عندما تحين مفاوضات السلام". وكان الجنرال ألنبي قد قرّر عشية دخول دمشق (30 سبتمبر 1918) تقسيم بلاد الشام إلى ثلاث مناطق عسكرية، وهو ما سمح بإنشاء "إدارة عربية" في دمشق وشرق الأردن" لـ"تأمين مصالح السكان". ومع دخول دمشق في اليوم التالي فوّضت وزارة الحرب في لندن الجنرال ألنبي بـ"رفع العلم العربي في دمشق".

ويرى المؤلف هنا أنه لم يكن بوسع الجنرال ألنبي أن يوضّح أكثر نوايا حكومة لندن "لأنها نفسها لم تكن تعرف بعد ماذا تريد لنفسها في الشرق الأوسط". كانت لدى الجنرال ألنبي نسخة من خريطة سايكس – بيكو، فرأى أن تكون دمشق للأمير فيصل والجيش العربي وعيّن ابن دمشق الجنرال علي رضا الركابي حاكماً عسكرياً على المنطقة الشرقية تحت قيادته. ومع وصول الأمير فيصل والجنرال ألنبي إلى دمشق في يوم واحد (3 أكتوبر 1918) جاء الاجتماع الأول بينهما ليضع الأمير فيصل في الوضع الجديد مع تفسير ألنبي بأن "الوضع الحالي مؤقت وأن مؤتمر الصلح فقط سيثبت الحل النهائي".

ولكن الطرفين المتنافسين (فرنسا والنخبة العروبية التي جاءت مع الأمير فيصل بحلم استعادة مجد الدولة العربية في دمشق) كانا يعتبران ذلك إخلالاً بتعهدات بريطانيا سواء للشريف حسين أو لاتفاقية سايكس- بيكو، ولذلك سعى كل طرف إلى تثبيت الأمر الواقع كما يريده لاستباق مؤتمر الصلح. فقد أعلن الأمير فيصل في 5 أكتوبر 1918 عن تأسيس "حكومة عربية ديمقراطية" في دمشق، كما أخذ الحكام العسكريون الفرنسيون في الساحل في إنزال الأعلام العربية وترهيب الأقليات (الموارنة والدروز) من "الحكومة العربية"، وهو ما استدعى احتجاج الأمير فيصل وتقديم استقالته الأولى للجنرال ألنبي الذي رفضها طالباً منه انتظار مؤتمر الصلح ليبت في الأمر.

كانت باريس تنظر بريبة إلى "تعاطف" الجنرال ألنبي مع الأمير فيصل و"الحكومة العربية"، وازدادت هذه الريبة عندما فُرض عليها القبول بمشاركة الأمير فيصل في مؤتمر الصلح، الذي عرف كيف يعرض قضية حق العرب بدولة مستقلة في حضور الرئيس الأميركي ولسون الذي نادى بحق الشعوب في تقرير المصير، ولذلك اقترح إرسال لجنة دولية لاستطلاع رغبة السكان في بلاد الشام.

كانت هذه الفكرة، التي وافقت عليها أولاً لندن وباريس ثم تخلّتا عنها، قد تمخضت عن إرسال لجنة أميركية (لجنة كينغ- كرين) التي أثارت الحماس وأبرزت هيئة جديدة سيكون لها دورها في تطوّر الأحداث (المؤتمر السوري العام). ومع هذا التطوّر السريع في الأحداث رأت باريس ولندن تجاوز الشكوك والاتهامات بينهما وإعادة التفاوض حول اتفاقية سايكس – بيكو لإجراء تعديلات عليها لصالح بريطانيا (سواء في فلسطين أو العراق) باعتبارها صاحبة القوة العسكرية الأكبر، وهو ما أدى إلى التوصل إلى اتفاق يوم 15 سبتمبر 1919 وانسحاب تدريجي للقوات البريطانية من المناطق التي خُصّصت لفرنسا التي سارعت لإرسال الجنرال غورو إلى بيروت لتطبيق سياسة القوة مع "الحكومة العربية" في دمشق.

في غضون ذلك، نصحت لندن الأمير فيصل بالتفاوض مع باريس للحصول على ما يمكن، وهو ما دفعه للتفاوض الصعب مع رئيس الحكومة كليمنصو في نهاية 1919. كانت اتفاقية فيصل- كليمنصو، التي منحت سورية نصف استقلال، جاهزة للتوقيع في الأيام الأولى من 1920 ولكن الإنذار الذي وصله من والده الملك حسين والأخبار التي كان يرسلها له أخوه الأمير زيد من دمشق جعلت الأمير فيصل يوقّع عليها بالأحرف الأولى فقط في 6 يناير 1920 لكي يطلب مهلة للتشاور مع الشعب.

ولكن عندما وصل إلى دمشق وجد المعارضة متصاعدة ضد أي حل وسط مع باريس، ولذلك استسلم للأمر الواقع وافتتح المؤتمر السوري في 6 مارس 1920 وهو يعرف النتيجة: إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية (أي مع لبنان وفلسطين) واختياره ملكاً دستورياً في 8 مارس 1920. أما رد فرنسا وبريطانيا فقد جاء بعد شهر في مؤتمر سان ريمو الذي كرّس الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان والانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، وجاءت معركة ميسلون في 24 يوليو 1920 لتفتح الطريق للقوات الفرنسية لتدخل دمشق أخيراً بعد أن دخلتها بشكل رمزي مع القوات البريطانية في أول أيام أكتوبر 1920.

في ما يتعلق بـ"الحكومة العربية" في دمشق (1918-1920) يُظهر المؤلف هنا التعاطف والتقدير لما قامت به في ظروف صعبة جداً. فهو يعترف بأن "حكومة فيصل كانت مقبولة على الأقل بشكل عام من الشعب"، ولكن فيصل "كانت لديه قلة من الإداريين من ذوي الكفاءة الذين يمكن أن يؤسّسوا نظاماً جيداً باستثناء قلة من الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني".

ومع ذلك يقرّ المؤلف بأنه مع تلك الظروف "تمّ بشكل تدريجي إنشاء مؤسسات حكومية وعدة وزارات على النمط الأوروبي، واتخذت عدة مبادرات مفيدة"، وتتوّج ذلك بالتئام المؤتمر السوري العام "الذي انتخب أعضاؤه في بعض المناطق وتم تعيين أعضائه في مناطق أخرى"، دون أن يوضح المؤلف أن السلطات الفرنسية والبريطانية في لبنان وفلسطين منعت إجراء انتخابات هناك مما جعل السكان يختارون أسلوب التفويض، وهو الذي توّج عمله بطرح برنامجه المتمثل في "تأسيس حكم ديمقراطي ملكي يشمل سورية بكل أجزائها".

ولكن تقدّم الجيش الفرنسي عبر سهل البقاع وقيام الجنرال غورو بتوجيه إنذاره المعروف أبرزا الارتباك في الحكومة العربية بدمشق، ما بين المتحمسين للقتال والميّالين إلى التفاوض، ولذلك لم تتمكن بقية قوات الجيش والمتطوعين من وقف تقدم الجيش الفرنسي عند ميسلون في مواجهة الدبابات والطائرات أكثر من ست ساعات، وانتهت هذه المواجهة إلى دخول الجيش الفرنسي إلى دمشق في اليوم التالي وإرغام الملك فيصل على مغادرة البلاد في 30 يوليو 1920 لتدخل سورية في مرحلة جديدة من تاريخها.

في الخاتمة، يقول المؤلف إن خارطة الشرق الأوسط تغيّرت من العراق إلى مصر بين 1920 و1921، وبعد 1948 "أصبحت هناك حكومات مستقلة ولكن لم تكن هناك حكومة مستقرة، بل كانت لدى هذه الدول جيوش وتقاليد انقلابات وشكوك في الدول المجاورة"، و"كل هذه الخصائص يمكن إرجاعها دونما شك إلى كونها كانت مستعمرات للقوى الأوروبية، مع عدم استثناء إرث الحكم التركي أيضا".

وفي ما يتعلق بموضوع كتابه عن سورية يعترف غرينجر بأنه أنجز الكتاب خلال الحراك الشعبي المطالب بالديمقراطية الذي بدأ في 2011، وهو ما يعتبره مناسبة لتحليل النظام في ضوء المقاربة ما بعد الكولونيالية. وهكذا فهو يعتبر أن النظام هو "إرث من الماضي الكولونيالي مع شبكة المخبرين وشريحة العسكريين والمدنيين الجهلة والجنود المستقدمين من أي مكان... كما كانت بريطانيا تستخدم الهنود في فلسطين وتستخدم فرنسا السنغاليين في سورية". وبالاستناد إلى ذلك، يقرّ المؤلف بالحق في لوم الإرث الكولونيالي البريطاني الفرنسي للممارسات الحالية للأنظمة الموجودة، ولكنه يقرّ أيضاً بأن الديكتاتوريات الموجودة تقبّلت أو استثمرت بنجاح هذا الإرث الكولونيالي.

في النهاية، لا يقبل المؤرخ السير في لعبة "ماذا لو...؟" أي ماذا لو بقي الملك فيصل على رأس المملكة السورية التي أعلنت استقلالها في 8 مارس 1920؟، لأنه "لا يبدو أن أفضل فرصة لحياة طبيعية لسورية كانت في إعلانها مملكة متحدة دستورية تحت حكم الملك فيصل"، مع أن السوريين أرادوا لاحقاً (من 1925 إلى 2011) نظاماً دستورياً لبلادهم. أما السبب في ذلك فهو رأي المؤلف بأن "إرساء نظام دستوري، سواء ملكي أو غير ملكي، لم يكن ليدفع بريطانيا أو فرنسا للتخلي عن توجهاتهما الإمبريالية، والتخلي عن الوعود التي قطعاها لبعضهما البعض"، ومن هنا "فإنّ فيصل لم يكن يمثل فرصة للحفاظ على مملكة سورية متحدة لأن بريطانيا وفرنسا كانتا قد قرّرتا لمصالحهما الإمبريالية تقاسم أراضي مملكته في ما بينهما".


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون