مأزق المعارضة المصرية

24 نوفمبر 2019
+ الخط -
مع مرور الوقت واستكانة موجات الغضب الشعبية ضد النظام المصري، يتبدد الأمل في المعارضة المصرية التي من الممكن أن تنتج خطابًا توحيديا لصفوفها، على الأقل خارج الحدود المصرية..

ومع مرور الوقت أيضًا، يزداد النظام المصري تمكنًا من مفاصل الدولة المصرية، ويزداد خطابه وخطاب من يمثلونه في قطاعات مختلفة فاشية واستئصالية وقمعاً للشعب المصري وعدواناً على ثوابته وتفتيتا لنسيجه المجتمعي، في حين أن المعارضة المصرية لم تنتج خطاباً يمثلها مجتمعة أو يمثل حدًا أدنى من مفردات خطابية قد تخاطب بها الشعب المصري، ويصرّ كل فصيل على أن ينتج خطابًا مضادا للفصيل الآخر، بعنادٍ شديد دونما أي التفات للقضية الوطنية المصرية.

وحين نتحدث عن المعارضة المصرية هنا، فإننا نقصد الرافضين لنظام عبد الفتاح السيسي، ومن يرى أنه جاء عبر انقلاب عسكري مكتمل الأركان في يوليو 2013، وليس بعض الفصائل التي تدّعي المعارضة وهي جزء من اللعبة السياسية التي ينتجها نظام السيسي، كالبرلمان وبعض الأحزاب المُشرعِنة لتحركاته وقوانينه والتي تقول إن هذا النظام نتيجة "ثورة!".


على الأقل إن اعتمدنا هذا التصنيف، فإن الصورة قد تتضح قليلًا بشأن من يمكن أن ينطبق عليه تصنيف "معارضة"، ومن لا يمكن ألا نعتبره إلا ضمن أتون نظام السيسي، وأقصد في ذلك نوابًا وصحافيين وإعلاميين يعتبرون السيسي شرعيًا، ولا يعتبرون ما حدث في 3 يوليو 2013 انقلابًا عسكريًا، بل ويتماهون في خلع النجاحات على بعض التحركات التي يقودها نظام السيسي، ويتغاضون عن الانتهاكات الفظيعة خاصة في ملف حقوق الإنسان وملف سيناء، ويسلكون سبيلًا انتقائيًا في الدفاع عن بعض المعارضين المعتقلين، ويرون التعايش السلمي في المجتمع مع بعض الفصائل السياسية دونما أخرى! هؤلاء يدورون في فلك منافسة داخل النظام ذاته ولا يمكن أن نعتبرهم إلا من داخل النظام، في أبهى الحالات يمكن اعتبار هذا النمط معارضة من داخل النظام "حمائم النظام"، رغم عدم استمراريتهم في ظل نظام سلطوي يقوم على "فرد" لا يقبل بوجود جناح مُعارض داخل نظامه، ومن ثم ينقلب عليهم بالاعتقال أو النفي أو الإسكات!

تعددت المحاولات والمبادرات والخطابات والكتابات ..إلخ، التي تأخذ بعين الاعتبار ضرورة توحيد المعارضة المصرية -على الأقل في الخارج- ولم تفلح أي منها في بلورة -ما يمكن تسميته- خطابًا ذا مبادئ سياسية تتفق عليها المعارضة في خضم معركتها ضد السيسي، حتى الخطوات الفعلية التي تبلورت على هيئة هياكل تنظيمية في ظاهرها التعددية، قد فشلت أو قلّ تأثيرها بسبب الخلافات الداخلية، كالمجلس الثوري المصري أو جبهة الضمير مثلًا، والأسباب تتمحور في عدم وجود رغبة حقيقة أو إرادة لدى أطراف المعارضة المصرية في الخارج للاصطفاف أو لحل الأزمة، والمضي قُدمًا في جدال هُوياتي يعمق من شرخ المعارضة المصرية، بل والأدهى هو انقسام الكيانات الواحدة على بعضها البعض. قد أثر انقسام جماعة الإخوان المسلمين إلى أكثر من فصيل منذ عام 2016 على فعالية المعارضة المصرية في الخارج ككل، وحالة البؤس السياسي والأزمات التنظيمية والفكرية العميقة التي تعيشها الجماعة وعدم قدرتها على الاتفاق على استراتيجية واضحة، على الأقل من بعد وفاة الرئيس محمد مرسي، ناهيك عن عدم تبلور عدد كبير من الفاعلين في المعارضة العلمانية في شكل تنظيم أو كيان قد يتم التوافق معه.

إلا أن ظاهرة "محمد علي" في سبتمبر الماضي كانت ضربة للمعارضة المصرية وادّعاءاتها بتمكّن نظام السيسي من كل شيء وتصدير خطاب انهزامي أصاب الكثيرين باليأس والجمود، وقد أثبت من خلال "بساطته وعاديته الخطابية" أنه أكثر فعالية وتأثيرًا من المعارضة التقليدية -على اختلاف تنوعها الأيديولوجي والتنظيمي- وأن محاولاتها التعبوية فاشلة بامتياز، وأنها لم تعد -المعارضة ولا نخبتها- تؤثر في الشارع المصري، وقد كشف عن بؤس المعارضة في التفكير والتخيّل والتصوّر، ومن ثم كان على المعارضة المصرية الالتفات لهذه الظاهرة والتعامل معها بذكاء والاستفادة منها قدر المستطاع، إلا أن مسار خيبة الأمل استمر، وبدلًا من التعاطي مع ظاهرة "محمد علي" استمرت المعارضة في التشكيك، والتثبيط، بل والأنكى من ذلك اتفق خطاب بعض المعارضين السياسيين -لا سيما النشطاء الفيسبوكيين- مع النظام في تخوين "محمد علي".

كان ظاهرًا أن بعض النشطاء المعارضين يرفض أن يقود أي حراكٍ محتمل طرف آخر، وبدا أن احتكار الزعامة السياسية مشكلة عميقة تعاني منها المعارضة المصرية وسبب أساسي في تشتتها، وأعتقدُ أن فصائل المعارضة قد أصيبت بصدمة نتيجة للأعداد الهائلة -مقارنة بحجم القمع وإغلاق المجال العام داخل مصر- التي نزلت إلى الشوارع في يوم 20 سبتمبر وانتقال التظاهرات الغاضبة إلى هامش جغرافي في الدولة المصرية، التي عهدت المركزية حتى في التظاهرات، وتمثّل الاحتجاجات على هيئة لم يكن لأحد أن يتوقع مسيرها بهذه الطريقة، وامتدادها إلى أكثر من محافظة مؤثرة غير القاهرة والإسكندرية، ثم ما لبث أن عاد الخطاب المتكبّر، إثر عدم نجاح دعوة "محمد علي" في 27 سبتمبر، بعدما شهدت مصر إغلاقًا لكل شيء وحملات اعتقال عشوائية غير مسبوقة منذ زمن، وتهيئة قوات الأمن لعملية قمع مهولة.

لم تعِ المعارضة المصرية بكل فصائلها وتقسيماتها وتمثلّاتها أن هذه الموجة من الاحتجاجات قد خرجت عن تصدير مطالب سياسية، بقدر ما قد انتقلت إلى ما هو أكثر ضرورة من ذلك، مطالب اقتصادية واجتماعية وأنها تجاوزت مطالبات المعارضة الموجودة في الخارج والتي فقدت القدرة على التواصل مع الداخل أو تحريك -شبه- تظاهرات في الداخل المصري -ولست بصدد الحديث عن ديناميات الاحتجاجات الأخيرة التي تحدث عنها الأستاذ خليل العناني في مقال سابق له-، لكن ألتفت إلى أنه كان على المعارضة المصرية ملاحظة أنها فقدت القدرة فعلًا على توجيه الجماهير، وأن السبيل الوحيد لاستعادته هو إنتاج خطاب ذي تأثير يشبه ما قدمته ظاهرة "محمد علي".

مؤخرًا، خرج "محمد علي" من نمط التعبئة عبر "البث المباشر عبر فيسبوك" الذي فقد فاعليته شيئًا فشيئًا، وانتقل بما أراه ذكاءً شديدًا، للذهاب إلى كبريات وسائل الإعلام والحوارات والمؤتمرات الصحافية، ويبدو أنه قد حصل على تطمينات أمنية سار من بعدها في تحركات آمنة في لندن، تحدّث بعدها عن رغبته في "توحيد المعارضة المصرية"، وربما قد لمس "محمد علي"، من دون أن يدري، لُب القضية المصرية ذاتها، والتي يدور أي حل فيها أولًا في توحيد المعارضة المصرية مترامية الأطراف والأهواء والرغبات. وهو التحدي الأبرز الذي تواجهه ظاهرة "محمد علي" أن يعمل هذا الصوت غير التقليدي على توحيد المعارضة التقليدية في كيان أو جبهة أو بيان موحد، تبرز أهم سماته في تنحية الخلافات العتيقة التي يثيرها عادة من يجد نفسه بعيدًا عن مساحة الضوء ويريد العودة للأضواء مرة أخرى، وأن يكون الهدف الأساسي المفعّل هو البحث عما يدفع المعارضة للاصطفاف والتوحد.

قد يكون من سمات هذا التوحد أن يبتعد فيه "المتطرفون" من كل الفصائل عن مشهد الاصطفاف "السياسي"، والمتطرفون موجودون بداخل كل فصيل سياسي، إسلاميا كان أو علمانيا، وأن تبرز وجوه جديدة إلى مرتبة القيادة لا سيما في صفوف الإسلاميين، وقيادة حوار غير مشروط قد يفضي إلى استراتيجية خطابية جديدة في المرحلة المقبلة.
سيف الإسلام عيد
سيف الإسلام عيد
سيف الإسلام عيد
كاتب مصري
سيف الإسلام عيد