عندما حذّر المفكر المغربي عبد الله العروي، قبل سنتين، من ضياع جهد شباب عشرين فبراير ودورهم في تحريك مياه السياسة والحريات الراكدة في البلد؛ خرجت أصوات عديدة من نشطاء هذه الحركة معلنةً سخطها. صاحب "مفهوم الدولة"، في حواره مع مجلة "زمان" الشهرية المغربية، الذي نُشر عام 2012، أشار إلى أن التاريخ لن يكتب أسماء هؤلاء الشباب بين سطوره في سياق تدوين ما عرفه المغرب في تلك الفترة من تغيير للدستور أو إصلاحات وُضعت بعد أسابيع فقط من نزول مئات الآلاف منهم إلى الشارع، عام 2011.
قال العروي، في سياق حديثه عن كتابة التاريخ وصناعته، إن هؤلاء الشباب "ليس هم مَن كتب الدستور الجديد، الذي سيكون الوثيقة الوحيدة التي سيدرسها المؤرخون القادمون. مؤرخو الثورة الفرنسية يؤكدون على دور الجماهير (الحشد) ودور تجمعات الأحياء، لكنهم يتوقفون أكثر عند أثر الدستور، لأنه ترك العديد من الوثائق، بينما تكلّم الحشد وكلامه ذهب في مهب ريح التاريخ".
الآن وبعد مرور سنتين على الضجة التي أثارتها تصريحات العروي، وبعد خفوت التجربة سياسياً يبدو وكأن النشطاء الشباب يساهمون بأنفسهم في نسيان تجربتهم. فلا أحد منهم فكّر في تخصيص مؤلَّف حول هذه التجربة ولم يجر استثمارها إبداعياً أو فنياً، ما قد يعطي مصداقية لفكرة العروي.
الناشطة والمدونة كريمة نادر، التي كتبت عن الحركة وشكلت مع مجايليها في بداية الحراك تنسيقية في مدينة الدار البيضاء، لها رأي يجادل الفكرة التي عبّر عنها المفكر المغربي. تقول، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "ما أغفله العروي، في تقديري، هو أن لحظة 20 فبراير هي حالة سوسيو ثقافية أكثر منها ثورة، وبالتالي كان سيكون مفيداً لو قُورنت، رغم الفارق، مع لحظة أيار/مايو 1968 في فرنسا. خلقت هاتان اللحظتان حالة ثقافية اجتماعية فارقة، وكما نتحدث عن فرنسا مختلفة ما بعد 1968، صرنا نتحدث أيضاً عن مغرب ما قبل 20 فبراير ومغرب ما بعد هذا التاريخ".
وترى نادر أن كتابتها الموازية لأحداث 20 فبراير "هي فعل هادئ يتفاعل مع الحركة ويستحضر قيمها مجازياً، من دون اللجوء إلى الفجاجة والمباشرة والشعاراتية غير المطلوبة إبداعياً". على هذا الأساس، "لا يمكن الحديث عن التأخر أو الامتناع عن الكتابة، إذ سواء تعلق الأمر بالكتابة التأريخية أو الإبداعية، فإن المسافة الزمنية تتيح لي أن أرى الأمور بشكل أوضح. ما يمكن أن أؤكده هو أنني قد أكتب، يوماً ما، تخييلاً ذاتياً لن أستثني منه تجربة 20 فبراير لأنها تجربة طبعت ولا زالت تطبع جزءاً من شخصيتي".
عضو "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان"، وهي كبرى المنظمات المدنية التي دعمت الحراك، المهدي ناسي، يؤكد بدوره أنه ينوي الكتابة حول أحداث 20 فبراير. "كنت دائماً أؤجل ذلك إلى حين تتضح الرؤية وتكتمل التجربة، خصوصاً مع استمرار أنشطة الحركة. لكن الآن، يبدو أني سأفعل ذلك قريباً". ويرى ناسي أن موقع فايسبوك يقترح عليه مادة تعكس التمثلات والتطور التفاعلي مع الأحداث في لحظتها. ويقول إن أهم النقاط التي يفترض أن يركّز عليها في كتابته هي اللحظات الكبرى للحركة، مستشهداً بالأرضيات التأسيسية التي انتشرت قبل الحراك، والخطاب الملكي، والنزاع مع الإسلاميين داخل الحركة، والانتخابات البرلمانية التي تشكلت على إثرها حكومة عبد الإله بنكيران.
بخلاف ذلك، يرى المدون منير بنصالح، وهو أحد مؤسسي الحركة، أن الوقت الذي مرّ كفيل بتدمير الذكريات، وأنه لم يعد ممكناً كتابة المذكرات والشهادة عما عاشه النشطاء بنفس الطريقة التي كانوا سيكتبون بها لو أنهم انطلقوا في الكتابة منذ ثلاث سنوات. إذ لا يكفي، برأيه، أن نروي بعض القصص التي ما تزال عالقة في الذاكرة، أو حتى أن نخلطها بالمتخيل، إذ "سنخون حينها الوقائع التي عشناها، ولن يعود بوسع القارئ، الذي يأتي من سياق آخر، أن يفهم اللحظة التاريخية التي عشناها".
ويعدّ بنصالح من الشباب القلائل الذين أصدروا كتباً عن الحراك المغربي، إذ نشر بالفرنسية، عام 2012، "شبكات التواصل الاجتماعي والثورات العربية: أية علاقة؟"، وهو الكتاب الذي أجمل فيه ملاحظاته وانطباعاته عن الربيع العربي عموماً وعلاقته بتلك الشبكات، مركّزاً بشكل أساسي على التجارب المغربية المختلفة التي انطلقت منذ ربيع 2011.
ولا يعطي بنصالح تقييماً إيجابياً لكتابات شباب الحركة حول تجاربهم، إذ يعتقد الرجل، الذي يرأس في الوقت ذاته "حركة أنفاس الديمقراطية"، أن ما جرت كتابته كان مبادرات فردية لا أكثر، ولم يرقَ ليعبّر فعلياً عن الزخم الذي عاشه الحراك.
من جهته، يرى الكاتب والباحث في علم التواصل، إدريس كسيكس، أن فعل الكتابة ليس مفروضاً بالضرورة على شباب الحراك الفاعلين: "يكتب الفاعل، غالباً، بجسده واندفاعه، وفي بعض الأحيان بجرأته وغضبه. أما أن تكون له الرغبة أو الحاجة لأن يدوّن فعله، فهذا نادراً ما يحدث. الشهادة المكتوبة لا تأتي بالضرورة من الفاعل، فهو ليس مطالباً بها".
ويفترض كسيكس، الذي يشرف على مركز للأبحاث في العاصمة المغربية، أن أحد أسباب ابتعاد الفاعلين في 20 فبراير عن الكتابة مردّه أن "تحركهم كان ضد الموروث والمألوف والمؤسساتي، وفعل الكتابة، بمعناه التقليدي المألوف، يدخل إلى حد ما في هذا التصنيف، إلى جانب أنه اقترن بأشخاص يبدون محنّطين منذ زمن بعيد". ويشير، معلقاً على موضوعة الكتابة حول الحركة، إلى أن الكتابة التدوينية على شبكات التواصل الاجتماعي منتشرة بكثرة وبأشكال متعددة بين ناشطي المغرب، "أما الكتابة الإبداعية، فإنها تحتاج فاصلاً زمنياً، إذ لا يمكن الكتابة في الصخب".
ورداً على سؤال حول مدى جدوى التعويل على شبكات التواصل الاجتماعي لتوثيق التجربة، يقول كسيكس: "لم لا؟ شبكة التواصل الاجتماعي بوسعها أن تحفظ جزءاً كبيراً من الذاكرة. لربما نحن بصدد كتابة من نوع جديد. يمكننا هنا أن نتأمل موجات الكتابة بالعامية المغربية، أو المزاوجة بين الصورة والكتابة والفيديو التي تنتشر بين الفاعلين".