ليونارد كوهين.. لم يكتب عن الذباب

12 نوفمبر 2016
(تصوير: أندرو ستاويكي)
+ الخط -

"المرأة تراقب جسدها بانزعاج، كما لو أنه حليفٌ لا يُعتمد عليه في معركة الحبّ".

- ليونارد كوهين


يعد المغني وكاتب الأغاني والشاعر والروائي الكندي ليونارد كوهين (1934 - 2016)، أحد الأرواح الإبداعية البارزة في القرن الماضي؛ فقد حاز جائزة "غرامي" لـ "أفضل إنجازٍ في حياة الفنان"، وعددًا من الجوائز الأخرى، كما نقلت موسيقاه وأغانيه الشعبية إلى ممالك الشعر والفلسفة أيضًا.

بحلول الوقت الذي صعد فيه نجم بوب ديلان، كان كوهين قد كتب دواوين شعرية وروايتين من ضمنها رواية "الخاسرون الجميلون" Beautiful losers ، التي لاقت استحسانًا واسعًا من النقاد، وهو أيضًا ما جعل ألين غينسبيرج يقول إن بوب ديلان كان قادرًا على خطف أنظار الجميع باستثناء أنظار كوهين، وبمجرد أن تحوّل كوهين إلى كتابة الأغاني في نهاية الستينيات، تغيّر عالم الموسيقى إلى الأبد!

يعد كوهين الأكثر غموضًا من بين كتاب الأغاني المؤثّرين (وهم قليلون جدًا) الذين ظهروا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، واستمر نجمه بالبزوغِ حتى عصرنا هذا، ليترك أثرًا على أجيالٍ قديمة وجديدة وبصمةٍ واضحة بعد ألبومهِ الأخير You Want It Darker، الذي أُنتج هذا العام.

حين يكتب كوهين أغانيهِ، فهو لا يكتب عن ذبابة وقفت على الشباك دون جدوى، أو عن حلمهِ في أن يصبح ما يريد، وإنما يتحدّث عن الأسئلة الكبرى؛ يتحدّث عن الخلود. في أغانيه، طرق كل تلك الأسئلة الفلسفية الشائكة، كل الحوارات التي تحضرها لوقت اللقاء مع الإله. الفرق أن كوهين لن ينتظر، وإنما يضع كل هذه الأسئلة على شكل أغنية بكلماته وألحانه وموسيقاه وصوته.

أضافت تجربة صاحب "راقصيني، حتى ينتهي الحب" الروحية قيمةً عاليةً إلى فنّه الذي يلامس شغاف الروح، فقد نشأ يهوديًا، وتحوّل لاحقًا إلى البوذية في رحلتهِ للبحث عن الحقيقة. إيمانهُ المُكرّس من أجل الأغنية في مسيرته منحها البصمة التي استمرت على مدار السنين، وخير مثالٍ على هذا، هو أغنيته "هللويا" التي أنتجت عام 1984، ليتم إنتاج أكثر من 400 نسخة عالمية لهذه الأغنية التي أصبحت تعزفُ في الأعراس والمآتم وفي البرامج التلفزيونيّة والأفلام السينمائيّة.

ما الذي فعله كوهين ليحصل ذلك؟ نستطيع أن نقول مثلًا وبكل أريحيةٍ إنها لم تكن بنت دقيقة أو ثانية أو إلهامٍ كما يقول كثيرون، ولكن فعليًا، استمر كوهين ثلاثة أعوامٍ في كتابةِ هذه الأغنية، عند استماعك لـ "هللويا"، تشعر بأن الماضي السحيق قد عاد إليك على شكل ومضاتٍ، فمن قصة الملك داود إلى مناجاة الحبيب، ستشعر بأن الأغنية ليست مجرد أداء، وإنما جلسة استحضارٍ لأشياء ماتت فيك أو في العالمِ منذ زمن بعيد.

في مقابلات عديدة، تحدّث كوهين عن الكثير من القضايا الفلسفية والمصطلحات الكبيرة، التي تحتاج إلى قاموسٍ لفهمها، بلغة سهلة وسلسة، فنجده هنا يتكلّم عن الموسيقى وأهميتها ضمن كتاب "كُتّاب الأغاني وتأليف الأغنية" لباول زولو، الذي قدّم فيهِ ملخصًا خياليًا لعدد من المقابلات مع أشهر كتّاب الأغاني، من ضمنهم بيت سيغر وحديثه عن الأصالة؛ وبوب ديلان وحديثه عن التضحية والعقل اللاواعي؛ وكارول كينغ وحديثه عن التعرّق مقابل الإلهام. أما كوهين، في عام 1992، فتحدّث عن الغرض وحاجة الموسيقى في حياة الإنسان:

"ستجد دائمًا أن بعض الأغاني تعني الكثير بالنسبة لبعض الأشخاص. بعض الناس يتغزّلون وبعضهم يجدون زوجاتهم وبعضهم ينجبون الأطفال وبعضهم يغسلون الأطباق وبعضهم يعدّون الأيّام وهم يستمعون إلى إحدى الأغاني التي قد لا نعدها ذات أهمية، ولكن أهميتها جاءت من الآخرين، هناك دائمًا ذلك الشخص الذي يؤكّد أهمية الأغنية بأخذهِ لسيدة بين ذراعيه حضنًا؛ هذا ما يعطي الأغاني أهميتها في حياتنا. فالأغنية لا ترفع من قيمة الأنشطة الإنسانية اليومية، وإنما أنشطتنا اليومية هي ما تضفي وترفع من قيمة الأغاني".

يخبرنا كوهين بإصرارهِ الذي لا يتبدّل في أعمالهِ، بأن مبادئ العمل تحل محلَ ما قد نسميهِ "إلهامًا". كوهين لا ينتظر أي شيء مثل الإلهام، وإنما يبدأ بالكتابة ويستمر، حتى لو استغرق معه الأمر أعوامًا كما حصل معه في أغنية "هللويا". وهو أيضًا ما أعرب عنه أيضًا ثلة مبدعة من المشاهير مثل تشايكوفسكي حين يقول:"الفنان الذي يحترم نفسهِ لا يتوقف عن فنهِ فقط لمجرد أنه ليس في المزاج لذلك".

والروائية إيزابيل الليندي: "اكتب واكتب واكتب، حتى يجيء لك الإلهام، وليس العكس". والرسام تشاك كلوز: "الإلهام للمبتدئين، أما بقيتنا، فتبدأ العمل مباشرةً". والمؤلف إلوين بروكس وايت: "الكاتب الذي ينتظر الظروف المثالية ليبدأ الكتابة، سيموت قبل أن يكتب أي شيء"، والروائي من العصر الفيكتوريّ أنتوني ترولوب: "فكرتي حول موضوع كتابة الكتب هي نفس فكرتي عن مهنة صناعة الأحذية، فالشخص الذي يبذل جهدًا أكثر، ويكون مؤمنًا بفكرته أكثر، سينتج عملًا أفضل من غيره". والمصمم ماسيمو فينيالي: "لا وجود للتصميم بدون الانضباط والالتزام".

في هذا الصدد، يقول كوهين: "أكْتبُ في أي وقت، وعندما تبدأ الأغاني بالتشكّل، لا أكون قد فعلت أي شيءٍ غير الكتابة. أتمنى أن أكتب بسرعة مثل بعض الكُتّاب، ولكن هذه لن يحدث، كتابة الأغنية تستغرق مني وقتًا كبيرًا، وعليهِ، فأنا أعمل معظم الوقتِ على هذا الأمر".



يقول أيضًا: "لأعثر على أغنية أغنيها.. لأعثر على ما يسلب لبّي.. لأعثر على ما هو قادرٍ على اختراق ضجري من نفسي ومن عدم اكتراثي بآرائي.. لأعثر على ما يخترق كل هذه الحواجز، يعني أن أعثر على أغنية تحيي فيّ شيئًا بطريقة خاصة وملحة جدًا".

يتابع: "حيز التفكير الفوري لديّ بيروقراطي إلى حدّ ما ويشبهِ زحمة المرور. حالتي العقلية في الوضع الطبيعي تشبه غرفة انتظارٍ في دائرة إدارة المركبات (مكان مزدحم ومليء بالدردشات التمتمات)، ولاختراق كل هذا الضجيج وكل هذه الأحاديث عديمة المعنى التي تحتل جزءًا ليس بسيطًا من عقلي، فعليّ أن أعثر على شيءٍ عميق جدًا، شيء يستطيع أن يخطفني من حالة شرودي إليهِ مباشرة، فإن لم يكن كذلك، فأنا أهز رأسي وأكمل بحثي. لذلك، فإن العثور على الأغنية المنشودة يتطلب الكثير من المحاولات والكثير من الكتابة والمسح والكتابة والتعديل. كتابة الأغنية المنشودة، يتطلب الكثير من التعب والليالي الطويلة من دون نوم".

يتساءل: "ولماذا يفترض لعملي أن يكون سهلًا؟ أو مجرد انتظارٍ لإلهامٍ ما؟ أليس كل واحد فينا يعمل بجد من أجل قوتِ يومهِ؟ وكذلك أنا، عليّ أن أعمل بجدٍ مثل أي كادحٍ آخر لأحصل على قوتِ يومي".

عندما سُئل كوهين ما إذا كان يستمتع في هذا العمل الشاق، فأجاب مقتبسًا رأي لويس هايد حول الفرق بين العمل والعمل الإبداعي: "يجب أن يعطيك قوت يومكَ، وأن يعطيك لياقة بدنية وعقلية تسمح لك بالمشي بطريقة خاصة بين أفكارك الداخلية الكئيبة، ويعطيك بصمة خاصة في حياتك اليومية، لكن المشكلة في هذا العمل، أنه أحيانًا يكون مجرد عملٍ شاقٍ لا يساعد ولا يكون ممتعًا".

يقول أحد أصدقاء كوهين متحدًثا عنه وعن عقلهِ وعن أن الأفكار لا تأتيه لوحدها إلهامًا: "عقل كوهين نظيف وخالٍ من الأفكار مثل آنية أكلٍ جديدة". تقبّل كوهين هذا الرأي على أنه مديح لا إهانة، وأكّد أهمية التكرار في الكتابة والإعادة مرّة تلو الأخرى.

تناول كوهين مسألة "من أين تأتي الأفكار؟" باستخفاف شديد، لينتج لنا هذا الاقتباس الذي استخدمه بول هولدينغرابر في مقابلتهِ مع ديفيد لينش حول الإبداع، فكوهين يردّد ويحمل نفس أفكار إليوت حول مكان المغارة الغامضة للإبداع، ويقول هنا:

"لو عرفتُ أين توجد الأغاني الجيّدة، لصرت أذهب إلى هناك بشكل دوريٍ. الأمر أشبه بالبحث عن مغارة في قعر المحيط".

وكما لكل قطارٍ محطة بداية، ومحطة انتهاء، فقد كانت البارحة، هي محطة النهاية بالنسبة لـ ليونارد كوهين، بعد حياة كاملة أمضاها بين تشعبات الكتب والكتابة والموسيقى والعزف، بعد حياة كاملةٍ أمضاها ممزقًا بين الأسئلة والبحث عن الأجوبة. بين صراعٍ كبيرٍ مع الاكتئاب الذي لم يكن يسعى إلى إخفائه أبدًا.


(ترجمه وأعدّه أنس سمحان)


المساهمون