ليه يا مصر
ما تؤكده الجغرافيا التاريخية أن المصريين أنفسهم كانوا يطلقون على سيناء اسم "بر الشام" لإهمالها من مصر، وأنه لم يكن هناك ما تعرف باسم "رفح المصرية"، لكن السياسة رسمت خريطة أخرى، فتم تقسيم رفح الفلسطينية إلى مدينتين، إلى درجة أن تقسم بناية إلى قسمين طولياً، حتى يتم ضبط الحدود المتفق عليها، ضمن بنود اتفاقية كامب ديفيد. وعلى الرغم من ذلك، فرح أهل غزة وهللوا، حين عادت سيناء إلى مصر. لسبب واحد، هو اندحار آخر جندي إسرائيلي عن أرض عربية، فخرجت غزة في يوم 25 إبريل/نيسان من العام 1982حتى العريش، ليشهد الغزيون حفل التحرير الذي صدحت فيه شادية بأغنيتها" مصر اليوم في عيد"، وهي تطلق شعرها المصبوغ باللون الذهبي تحت أشعة شمس سيناء اللاهبة، فألهبت حماس الجماهير الغزية، قبل الجماهير المصرية.
والحقيقة أن مصر قد أغفلت سيناء، وجعلتها جزيرة منعزلة ومهملة، وكأنها عبء على جغرافيتها، وهذا ما أدى إلى ظهور الإرهاب فيها، حسبما تدعي مصر، وأسندت التهمة إلى غزة بأنها تصدّر جزءاً من هذا الإرهاب، من دون أن تحتسب الحكومة المصرية أن سيناء المنبوذة وفرت غطاء قبائلياً واسعاً عمل على مر الزمان على توفير التغطية والإيواء والمخابئ لكل الجماعات الإرهابية، المختلفة عقائديا ودينيا عن جماعة الإخوان المسلمين، وهذه الجماعات ولدتها السجون السياسية المصرية بدءاً من العام 1952، فلا يمكن القول إن "الإخوان" هم الجماعة الإرهابية الوحيدة التي تهدد أمن مصر، حسبما تدعي الحكومة.
في أول مرة سافرت عائلتي إلى مصر، بعد تحرير سيناء، اكتشفنا، كفلسطينيين، أن "من حكم في ماله فما ظلم"، لأن الانتظار في " الصالة المصرية"، حسبما يطلق عليها الغزيون، قطعة من عذاب جهنم، فموظف الجمارك المدقق في جوازات سفرنا كان يتركنا ننتظر فوق كراسي قليلة ومتناثرة ومهشمة، ويبقي أكثرنا وقوفاً، ليتحدث عبر الهاتف الأرضي مع خطيبته أو زوجته، ويصف لها لوعة فراق القاهرة، معتبراً وجوده في رفح "غربة"، وأن مصر هي القاهرة فحسب. كان علينا أن ننتظر، ولا نشكو حتى لا نسمع الشتائم والإهانات باللهجة المصرية من عسكري يرتدي بذلة كالحة اللون، وينظّم مرورنا، فيما يسمح للمصريات المتزوجات من فلسطينيين بممارسة تجارة "الشنطة" بين غزة ومصر، على الرغم من أن الحكومة المصرية كانت لا تمنح الجنسية المصرية لأبنائهن، وكن يجتزن معبر رفح إلى غزة، بثيابهن السوداء الرثة، قبلنا، فيما يبقى المدير والغفير منا في صالة الانتظار، حتى ينهي "روميو المصري" مكالمته التليفونية.
استرجعت هذه الذكريات، وأنا أرى صورة المسنة التي توفيت بين حقائبها على الجانب المصري، بعد أن ادعت إدارة المعابر المصرية أن المسنة تم إسعافها في أحد مستشفيات العريش، ووصلت إلى غزة على قيد الحياة، وكأنها تريد أن تنقذ ماء وجهها. ولو كان ذلك قد حدث فعلاً، فيكفي صورة الغزية المسنة، وهي ممددة في إنهاك وإذلال واضح، وضوح شمس سيناء بين حقائبها، تنتظر إشارة من موظف مصري متبرم وساخط، لكي تمر إلى الجانب الفلسطيني.