لينين الرملي... الهارب إلى اسمه

11 فبراير 2020
+ الخط -
رحل لينين الرملي، الكاتب والمؤلف المسرحي الكبير. مواليد أربعينيات القرن الماضي، جيل ثورة يوليو. أبوه فتحي الرملي، صحافي، يساري، سمّاه لينين، وسمى شقيقه ستالين. والدته أيضا كاتبة. تأثر ببيته، لا شك، لكنه كان مختلفا. أبوه شيوعي لا يحب جمال عبد الناصر، أما هو فيحبّه. يحاول أبوه إقناعه بأن عبد الناصر ديكتاتور، فيرفض. أجهزة عبد الناصر تقنعه في ما بعد. يعيش لينين هارباً من الرقابة، متحايلا عليها، رقابة المصنّفات الفنية، رقابة المنتجين، رقابة المخرجين، رقابة النجوم، هاربا بالمواجهة، والتحايل، لا بالتراجع. في بداياته، تتوسط أمه لدى صلاح جاهين، لينشر قصص ابنها في مجلة صباح الخير. جاهين يوافق، تعجبه القصص، إلا أنه يشترط على الكاتب تغيير اسمه، فهو اسم شيوعي، ضد توجهات الدولة! يرفض لينين، يخسر فرصته الأولى، ويكسب اسمه.
يعرف كثيرون أن لينين الرملي هو مؤلف أهم مسرحيات محمد صبحي، لكن أحدا لا يعرف أن لينين هو صانع نجومية صبحي، ذلك لأنه لا يقول. لم يكن لينين من ذلك الصنف من الكتاب الذين يختالون بما قدّموا. كان يكتب ويترك كتاباته لتتحدّث. رهانه إبداعه، لا تسويقه له. ليس صبحي وحده، فؤاد المهندس، عادل إمام، سمير غانم، إسعاد يونس، نجوم مصر الأوائل في الكوميديا مدينون له بنقلاتٍ فنيةٍ هامة في حيواتهم. "انتهى الدرس يا غبي" هي بطولة صبحي الأولى، كتبها لينين، رأى صبحي على الورق، رشّحه، صبحي وقتها نصف مشهور، رفض المنتج ورشّح محمد عوض، نجم الشباك، وأسند لصبحي دور "سنّيد"، وافق صبحي واعتبرها فرصة، رفض لينين، وأصرّ على اختياره، وهدّد بالانسحاب، رضخ المنتج، صعد صبحي إلى دور البطولة، ولم ينزل.
كان لينين يساريا في أفكاره، إنسانيا في فنه، لا يصرخ، لا يزعق، لا يعتلي المنبر مبشّرا بأيديولوجيته. أفكاره توجّهه، لكنها لا توجّه شخصياته. شخصياتُه منا، تنطق بلغتنا، تحمل ما نحمل، آلاما وأفراحا. لينين يتحايل على الجمهور أيضا، ويصل إليه بخبثه النبيل، ووعيه المرعب. معادلة لينين هي التي يبحث عنها كل كاتب حقيقي، ليس في المسرح وحده، بل في كل فنون الكتابة.
كيف تصل إلى الناس من دون تنازل، كيف تهرب من حفرة النخبوية، ولا تسقط في بالوعة الشعبوية؟ شُغل لينين يجيب، مسرح تجاري، يحمل أفكارًا وقيمة، ولا يخرب بيت المنتج. كوميدي، لا يتوقف فيه الجمهور عن الضحك. جاد، لا يتوقف فيه الجمهور عن التفكير. خالد، لا يتوقف عند جيل، أو حقبة، أو مرحلة. "مسرح وجهة نظر"، هكذا أسميه. قدّم لينين مع محمد صبحي علامات، أبرزها أنت حر، تخاريف، وجهة نظر، ثلاثيته الرائعة. "أنت حر" لا تزال ممنوعة من العرض، تناقش سؤال الحرية، بسهولةٍ لا تخلو من عمق، وكوميديا تخلو تمامًا من الإسفاف. أفلتت "تخاريف" وعرضت. في الفصل الثالث، يتناول لينين شخصية المستبد، يتمثّل صبحي شخصية أنور السادات، ويشير إلى تفصيلة في كلامه ولزماته، فتمرّ المسرحية من ثقوب رقيب حسني مبارك، لكن لينين يتحايل على الرقيب، ومبارك، بل وعلى المشاهد نفسه، ويصبّ في قالب "سقيل الندمان" حاكم جزيرة أنتيكا شخصية كل مستبدّ عربي، يقف، في دهاء فني نادر، على المشتركات بين كل المستبدّين، غرورهم، وجهلهم، وانعدام أخلاقهم، وانتهازيتهم، واحتقارهم شعوبهم، واحتقارهم حاشيتهم، وتآمرهم على أقرب الناس إليهم من أجل سلطتهم. لا يوجد مواطن عربي، من المحيط إلى الخليج، لم ير حاكمه في "سقيل". أما "وجهة نظر" فهي المسرحية التي يفهمها ناقد المسرح، ويفهمها عامل البوفيه في المسرح. كلاهما يفهم، كلاهما يضحك، كلاهما يستمتع، كلاهما يفكر، كلاهما يعيد المشاهدة والاكتشاف مرّات ومرّات.
لا تكفي مساحة المقال لاستيعاب لينين، ولا أظن الحياة كانت كافيةً لاستيعاب موهبته. نجح لينين في الإفلات من سلطة الرقيب طوال حياته. والآن يرحل، باحثا عن اسمه في سمواتٍ بلا رقابة، حيث رحمة الله الواسعة، وأنواره، ألف رحمة ونور، وإلى لقاء.