ليلى حيدر.. تبيع الخضار وتساعد سائقي التاكسي

06 يونيو 2015
تفرح حين تلمح تلميذات المدارس (العربي الجديد)
+ الخط -

أمام بسطة خضار في سوق شعبيّ، تقف حاملةً حقيبة يدها الحمراء الصغيرة التي لا تفارقها. قامتها مربعة وممتلئة، أنفها صغير، وشعرها ناعم بطبيعته. أناملها القصيرة تجعلها تبدو كطفلة أكثر من أي شيء آخر فيها. عيناها لا تهدأان أو تثبتان، بل تراقبان كل ما يجري من حولها. ثيابها الرثّة تُلازمها حتى باتت جزءاً منها. لا يعنيها الاهتمام بشكلها كثيراً. غالباً ما يفوح منها عطر مركّب برائحة الياسمين. تتصرّفُ بودٍّ مع جميع الناس. إذا لمحتها في الشارع، تمكّنت من إحصاء ابتسامات كل من يقابلها.

في منطقة البسطة التحتا في مدينة بيروت تعيش ليلى حيدر، وهي فتاة عشرينيّة لديها متلازمة داون. يعرفها الجميع هناك، كأنها جزء من خاصيّة المكان. أما هي، فلا تعرف إلّا من هو على تماس دائم معها. ينادونها باسمها وهي لا تنادي أحداً باسمه، إلا نعيم، صاحب بسطة الخضار، ودولت، البدويّة التي تبيع الزعتر على مقربة منه.
في الثامنة صباحاً، تقصد ليلى بسطة الخضار القريبة من بيتها، وتغادرها ظهراً. من مركزها الثابت هناك، تجمع غلّتها من دون طلب أو دعاء. تراقب المارين، تلاطفهم، ويطيّبون خاطرها. تُسعدُ ليلى كل من حولها. أحياناً، تنهر المارة بلطف. لا تخشى حتى مفتولي العضلات.

لليلى لغتها الخاصة. بعضُ كلماتها واضحة، ومنها ما يستحيلُ فهمه من المرة الأولى. تنطقُ من الكلمة حرفاً أو اثنين، وتختصر الجمل الطويلة بكلمات أو أحرف متناثرة. عدنان تسمّيه "عنّا". أما توفيق فهو "بوفي". ودولت هي "دلّا". لغةٌ يفهمها ويحبّها كل من حولها. يُحدّثها الناس في السياسة والاقتصاد والطب والدين والحب والخيانة. لا تساير أحداً. إجاباتها دائماً تكون صريحة وواضحة. اللص بنظرها يبقى لصاً مهما عظم شأنه. ليست مستعدة لتبديل الصفات.

تستمع ليلى إلى أخبار ذلك الحي الشعبي، وتبتسم. حين يكون المتحدث سعيداً، ترمش كثيراً، وتفتح عينيها بشكل واسع. أما إذا التمست حزناً في صوته، تقابله بقهقهة عالية، يسمع صداها في أرجاء الحي. تضحك عالياً حتى تنحبس أنفاسها. تضحك لدقائق متواصلة حتى تغرق عيناها بالدموع، كأنها تخبرهم أن الحياة قصيرة ولا تضيعوا وقتكم في الحزن.
فطور ليلى الصباحي دائماً مؤمّن، وهو عبارة عن منقوشة زعتر طازجة مع كوب من الشّاي أو مشروب غازي يقدمه لها نعيم. لا تحبّ أن تُشارك طعامها مع أحد. وإذا حاول أحد المتطفّلين سرقة المنقوشة منها، توبّخه أمام الحاضرين بلطف، مردّدةً على مسمعه عبارتها المعتادة: "بدّي قول لنعيم". لا حدود لحب ليلى لنعيم. يثرثران لساعات طوال. في معظم الأحيان، لا يعي شيئاً مما تقوله، لكنّه يظهر وكأنّه يفهم كل شيء. حتى ليلى لم تكن تفهم شيئاً من نعيم، لكنّها تضحك على كل ما يقوله، معتقدة أن هذا سيفرحه، فيثني على سرعة استيعابها ويداعب رأسها.

وسطَ صناديق الفواكه والخضار التي تحب رائحتها وألوانها، تلعب ليلى بمرح. تفرحُ حين تلمحُ تلميذات المدارس اللواتي اعتدن المرور كل صباح أمام بسطة الخضار. تنظرُ الى أثوابهنّ المرتّبة، وتسريحاتهنّ الأنيقة. تصرخُ "نعيم"، في محاولة لجذب الأنظار إليها. تنجحُ خطّتها أحياناً حينَ تلاطفها إحداهنّ أو تلتفت إليها. إلا أنها تقابلها ببرود تام. وحينَ يخيب ظن الفتاة وتهم بالمغادرة، ترفع ليلى غرّتها وتحاولُ مصالحتها. وبعد برهة من التفكير، تقول: "حلوة أنت"، إلا أنها تكون قد ابتعدت.

تجلسُ ليلى على الأرض وتفتحُ حقيبة يدها الحمراء وتخرج منها قلم شفاه زهري اللون كانت قد أهدتها إياه مزينة الشعر سوسن. تلوّن شفتيها بطريقة مبعثرة، حتى يتلطّخ كل وجهها، ولا تهتمّ.
للباعةِ في الحي قصصهم مع ليلى. يرى أولئك الذين أنهكتهم الحياة في وجهها خيراً، لا بل "يجلب الرزق". أمام بسطة الخضار تكون ليلى البائعة أحياناً بتفويض من صاحب البسطة. تجلس على عرشها، وهو عبارة عن كرسي بلاستيكي. تتشبّث بتاجها المخمليّ الأسود المزيّن ببعض حبّات اللؤلؤ المصنّع، وتتوسّطه "شكلة". تجلس بثقة تامة، وخصوصاً أن الزبون لا يجادلها أبداً، بل يسايرها ويشتري حاجاته مبتسماً. وهذا بطبيعة الحال يصب في مصلحة نعيم. وحين تملّ من محل الخضار، تنوب ليلى عن سائقي التاكسي. تقف على الخط المقابل لبسطة الخضار، مردّدةً على مسامع الناس: "حمرا، حمرا (شارع الحمراء).. واحد يلا".
ليلى سيدة المكان بلا منازع. تقف تحت أشعة الشمس، واضعةً تاج إمارتها الممتدّة حدودها من محطّة سنّو إلى آخر حدود منطقة الباشورة في بيروت.

اقرأ أيضاً: خيرية التي تنتظر رشدي أباظة
دلالات
المساهمون