ليلتي الساهرة
لم أكن فرحًا بليلتي الساهرة الساخرة، كنتُ أجلسُ خائفًا من نفسي، ومن كُلّ شيء كقطٍ يرى حسك السمك أنياب كلاب مفترسة. أحملق بكلمات الأصدقاء تخرج من أفواههم مغلفة بالحديدِ كعلب السردين المنتهية الصلاحية. يمرُ طَرف الحديث أمامي، أحاول إمساكه، أفشل في المرة الأولى، أحاول مجددًا ومجددًا. أكاد أن أمسكه وأفشل أيضًا، لكني ألمسه قليلًا فيظهرُ مبلولاً باردًا رغم جفاف وجوهنا، وتشقق الابتسامات على الشفاه كبور آب.
صمتي قاع دون قرار كليل كانون، والكلمات ومضٌ سرعان ما تخبو تحت رماد الألسنة المتناثر عند مرور النظرات على طريق الصدفة النائي خلف سياج السؤال. أسيرُ في نَفَسي وكأنني أراه لأول مرة، تعرجاته مرتفعاته منحدراته وتقاطع طرقه غريبةٌ عني كهندي أحمر يعبر بركام مبنى التجارة العالمي، ويبحث في الغبار عن أرواح أسلافه، ويتحسس الدموع كتعويذة السفر الاخير.
حالكةٌ أيامي كاحتراقِ سفر التكوين بمدفأة داروين، يصلُ الليفيتان يقطعُ الماء برأس اليابسة ويخرج البشر جماعات مدججين بالكراهية لا فرادى شاغري الذاكرة والتاريخ، منذاك ما زلت أبحث عن سراب بين تجاعيد الموج.
أجلس متوسطًا أهداب الزمن ملفوظًا من التاريخ كزجاجة ماء فارغة على شاطئ آذار تتقاذفها أمواجه الحائرة بين شتاءٍ صحراوي، وربيع بإزهار تكثر فيها الأشواك الدامية. اللعنة كل لعنة على الفصول المدرسية منها والمناخية، الأولى تقلمك كعودِ يابسٍ، وتُجهزك للاحتراقِ فيّ مدفأة التقاليد كي لا يشعر الأجداد بالبرد في قبورهم، والثانية تمتحنك بالماء والنار على أن رسوبك كل سنة مضمونٌ كي تعود كعادتك وتقول في نفسك: "كم كانت هذه السنة صعبة المراس، إنّها لعمري أقصى من سابقاتها، بل هي الأقصى أبدا".
هكذا أمضي أيامي المبعثرة كحصى صغيرة تسقط من فم الجبل إلى قعر وادٍ سحيق كالكابوس.
على ماذا تنوي أيها الليل، أنا الصاحي الأزلي بين ثناياك، والمهزوم دائمًا رغم يقظتي الفجة طوال ساعاتك. ألا يشفع لي هذا الجسدُ الضئيل كسيرة جنين بُقر بطن أمه فلم ير من الحياة إلا رأس الخنجر، وروح التيه هذه التي في صدري، كلما رأت ماءً أحالت عليه رمل الذاكرة، ألا تشفع لي أيضًا؟ الحلمُ في أنائك ترفٌ غريب التصور، والأملُ في أطرافِ نهارك فعلٌ شائن مدنس بخيوط الخيال.
أيها الليلُ، لا نهايةٌ لعتمة نهاراتنا تحت عباءتك المغزولة بشراييننا، ولا فائدة من انتظار فجرك ينزل علينا من السماء أو يخرج علينا كالمخلص من وراء جبل شاهق الانحدار.