ليست مؤامرة بل مختبر للفئران
تكفي إطلالة سريعة على المشهد العربي الراهن، لاكتشاف حقيقة أن هذا المشهد ليس سوى صدى لكلماتٍ، تناثرت في أفق السياسة الدولية في وقت ليس بعيداً. نظريات ورؤى وتصريحات مرت على أذهاننا، قبل أن تتجسد وقائع على أجسادنا وأرضنا، الفوضى الخلاقة، حدود الدم، انتقام الجغرافية، وشكلت هذه التعابير جهازاً تحليلياً متكاملاً للأوضاع في المنطقة العربية، واستشراف مآلاتها المستقبلية، وتزامن ذلك مع صدور سيل من الأنماط التحليلية الجديدة، لتفسير مثل هذه التطورات، وتقريبها من الذهن مداخل نظرية للتعامل مع المتغيرات المتسارعة والمتحركة، ومن ذلك نظرية البجعة السوداء Black Swan، وأثر الفراشة، ونظرية الفوضى، ونموذج السير العشوائي، ونظرية الاحتمالات.
بالعودة إلى حزمة المصطلحات والنظريات التي ظهرت من العام 2005 حتى 2011، والتي طالما استخدمها أتباع أسلوب التحليل المؤامراتي، للتدليل على أن ما يحصل، اليوم، هو مؤامرة موصوفة على كيانات وأنظمة مستقرة وفاعلة، يتبين أنه جرى الإستناد إلى ثلاث أطروحات انتشرت في هذه المرحلة:
-الفوضى الخلاقة: وهو مصطلح استخدمته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كونداليزا رايس، في حديث صحفي مع "واشنطن بوست"، إذ كشفت، حينها، عن نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية في العالم العربي، والبدء بتشكيل مايُعرف ب "الشرق الأوسط الجديد"، عبر نشر "الفوضى الخلاقة".
-حدود الدم: وهو بحث نشرته المجلة العسكرية الأميركية المتخصصة ''أرمد فورسز جورنال''، خارطة جديدة للشرق الأوسط، وضعها الجنرال المتقاعد رالف بيترز، وقسّم فيها المنطقة إلى دول سنية وشيعية وكردية. وعلى حد زعم رالف، تقسيم المنطقة على أساس الطوائف والاثنيات، بحيث تعيش كل طائفة أو قومية منفصلة عن الطوائف والقوميات الأخرى، في دولة سياسية مستقلة، من شأنه أن ينهي العنف في المنطقة.
-انتقام الجغرافيا: دراسة للباحث الاستراتيجي، روبرت كابلان، وذكر فيها أن المنطقة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي ستنتهي إلى التفتت والتقسيم، وسيجري استلحاقها بالكيانات المجاورة، وأرجع أسباب ذلك بالدرجة الأولى إلى فشل الأنظمة السياسية التي تعاقبت على الحكم فيها، وخصوصاً سورية والعراق، في إدارة عملية تنموية ناجحة، وتدعيم النسيج الوطني بدرجة كافيه، تمنح تلك الكيانات الحد الأدنى من المناعة، في مواجهة ما قد يعترضها من أزمات.
وفي الفترة نفسها، يمكن رصد نشاطات أميركية في مجال دعم المجتمع المدني في بعض الدول العربية، دعم المنظمات غير الحكومية وبعض القطاعات المجتمعية، مثل الدعوة إلى تمكين المرأة، أو بعض المؤتمرات ذات الطابع الاقتصادي، كما حصل في مؤتمرات في المنامة والقاهرة والدار البيضاء، وقد جرى تحديد أهداف تلك النشاطات التي اندرجت تحت مسمى "الشرق الاوسط الكبير"، ضمن أهداف محدّدة، مداخل رئيسية لعملية الإصلاح المنشود، وهي، تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح، وبناء مجتمع معرفي، وتوسيع الفرص الاقتصادية. والواضح أن الهدف كان دمج منطقة الشرق الأوسط ضمن منظومة الرأسمالية العالمية، وتكييفها مع العولمة، أكثر منه إحداث الفوضى.
وبعيداً عن تأويل نظريات المؤامرة، وطبيعة توظيفها هذا السياق، يفيد تحليل هذه المنظومة من الأفكار والسلوكيات أن هذه الرؤى أقرب إلى تقديرات مواقف، بل حتى تنبيهات سياسية صادرة عن مراكز دراسات، وليست سياقات استراتيجية. وأنها ذات طبيعة ثقافوية "شرح المجتمع والسياسة بالثقافة". وهذه الرؤى تعبر عن أزمة في إدارة الأزمة، كانت تقع تحتها الإدارة الأميركية في تلك المرحلة، وكانت تريد إشغال الرأي العام الأميركي بقضايا أخرى. ولم تظهر ملامح استراتيجية واضحة، لها مرتكزات وموارد، ولم يجر العمل على تأسيس حوامل واضحة لمشروع استراتيجي مهم. واستندت جميعها على قراءة الحالة العراقية "المتصدعة في حينه"، وبدرجة أقل الأوضاع المتوترة في سورية ولبنان. وأسست هذه الرؤى للانسحاب الأميركي من المنطقة العربية، والذي سيتبلور في بداية عهد أوباما، وأعطته عدّته التبريرية اللازمة، وهذا أوضح نتائجها.
ليس سرا اكتشاف أن تلك التقديرات والرؤى اعتمدت على مؤشرات من قلب الواقع الشرق أوسطي، كتراجع السلطة المركزية، مع غياب أي هرمية جديدة تحل محلها، وعدم وجود بدائل سياسية حقيقية، وظهور فاعلين جدد، وانسداد افق العملية السياسية، ووصول المجتمعات إلى حالة الإنهيار، وتفسخ الهويات الوطنية، وتناقص الطبقة الوسطى واضمحلالها، وصعود القوى العشوائية، ومن الطبيعي أن تصل نتائج تلك المؤشرات إلى توقع حصول الفراغ الذي يشكل أساس الفوضى.
وفي تلك المرحلة، كانت الولايات المتحدة تدرك أن آليات الفوضى صارت أكبر من أن يتم احتواؤها في العالم، نتيجة المتغيرات الثورية، الإنترنت، والعولمة، وانتشار النماذج الاستهلاكية في المعيشة، وكانت واشنطن تعرف أن الأنظمة السياسية في المنطقة تفتقد للمرونة الكافية، للتكيف مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنه جرى تشريحنا وإعادة وضعنا من جديد على سكة مناهج الاستشراق، بل حتى في مخابر الأنثربولوجيا على غفلة منا؟ فما جرى كان دراسة لسلوكنا، وتوقع أنماط إستجاباتنا وأشكال تفاعلاتنا مع المتغيرات البيئية الحاصلة. وكان العالم يعيد صياغة نظريته المعرفية بنا، ويكتشف أننا قبائل سنية وشيعية وكردية، يحلل نظم حكمنا وتوجهات نخبنا، ويكتشف حجم الأعطال الكامنة في مفاصل اجتماعنا. ليست مؤامرة، بالأصل لم نكن نشكل قوى مهمة، تحتاج اختراع سياق مؤامراتي، لتفكيكها وإضعافها. كل شيء كان آيلاً إلى الإنهيار، وديناميكية الخراب كانت قد أكملت عدّتها التشغيلية، بانتظار أن يشعل محمد بوعزيزي النار فيه وتحتها، الأصح والأقرب إلى المنطق أننا كنا فئران اختبار، ونجحنا، بطريقة مذهلة، في إثبات صدقية الفروض النظرية.