ليت النظام القوي يعود

09 يوليو 2016

ملصق لمرشحين للانتخابات البرلمانية السورية شمال غرب القامشلي (2إبريل/2016/Getty)

+ الخط -
احتفلت، قبل أيام، معظم أحزاب الحركة السياسية التقليدية الكردية، وعددها حوالى ثلاثين حزباً، بعيد ميلادها التاسع والخمسين، لا العدد طرفة، ولا الاحتفال بعيد الميلاد في اليوم نفسه، أيضاً، فجميعها تدّعي حق كونها الامتداد الشرعي والوحيد للحزب الأم.
حسناً. ماذا قدمت الكتلة الحزبية التقليدية للشارع الكردي المأسور بحكاية نضال طويلة من أجل الحرية؟ لا شيء ... بقسوتها ومباشرتها. فخلال ستة عقود، كان الانشطار الأفقي المنجز الوحيد الذي طُمر الشارع الكردي به. احترفت الطبقة السياسية الكردية استيلاد حزب جديد كل عامين تقريباً، يقفز كسابقيه خلف ظل شبح النظام الدكتاتوري، بما تقتضيه ضرورة المرحلة من محافظةٍ علی هيكل الحزب، من دون تصادم مباشر مع الوحش، فالحزب حريص علی حياة الشعب الكردي ورفاهيته، أكثر من حرصه علی تحقيق شعاراته بالحرية.
وجد النظام السوري في أحزاب "معارضته" الكردية صمّام أمانٍ لأقليةٍ قوميةٍ غير منضبطة، تشعر بغبنٍ مزمن، تُفجر "الشمال" السوري شغباً كل عامٍ مرة علی الأقل، عشية عيد النوروز الذي اضطر النظام عام 1986 لجعله عطلة رسمية، تحت مسمی عيد الأم، في محاولة لامتصاص شغب الأقلية القومية المنفلتة من صمام أمانها. وحطمت انتفاضة 2004 العفوية في قامشلو (القامشلي) طوق الأمان الحزبي، مصطدمة مباشرة مع النظام الذي استخدم الرصاص الحي، وكانت الحصيلة حوالى 50 قتيلاً، ودرساً قاسياً ومؤكداً لمقولة الكتلة التقليدية بأن اختيارها العمل في الظل والهوامش الضيقة لم يكن عبثاً. شرعنة لعطالة العمل السياسي جاءت علی طبق من ذهب، واستمرت مفاعيلها حتی ربيع عام 2011، حيث الثورة السورية وقلب للطاولة علی الجميع. لأشهر قليلة، احتلت الكتلة الحزبية التقليدية موقعاً مركزياً كردياً وسورياً، لتقول كلمتها أخيراً، وتحشر النظام في الزاوية، مرتكزةً علی سخطٍ شعبيٍّ، تتسع دائرته كل أسبوع.
برز اسم مشعل تمو القيادي الأكثر شغباً وقرباً من هتافات الشارع المدوية بإسقاط النظام الذي لم يحتمل التمو، فكان اغتياله رسالةً قويةً تؤكد، مرة أخری، حرص النظام علی بقاء صمامات أمان الصخب الكردي بمواقعها، وأن إدارة الأزمات الحقيقية يخوضها هو مباشرةً مع الشارع. لكن، هذه المرة بتقديم بعض التنازلات، من قبيل إعادة الجنسية للمواطنين الكرد المجرّدين منها، وترك تظاهرات المدن الكردية تمر بسلام من دون إطلاق النار عليها، كما في مدن الداخل السوري، كانت هذه المناسبة الثانية للحوار المباشر بين النظام والشارع بلغةٍ مختلفةٍ جداً عن لغة عام 2004.
أحرجت الثورة السورية بشدة، وفي تلك المرحلة، الكتلة التقليدية. تماثيل الأسد تُحطم، فما حاجة
الناس للاجتماع بقيادي حزبي يصدّع رؤوسهم بحكايا نضاله الهرم. عليه أن يفعل شيئاً الآن، فقد اختفی تماماً ظل البعبع الذي أحسن المجموع الحزبي استخدامه ليتجنب التورط بمشروع سياسي حقيقي، يحمل تطلعات الناس إلى مستویً آخر خارج ندوات سرية في أقبية البيوت.
حتی في تلك اللحظة المحرجة جداً، لم يكن خيار الانسحاب من الحياة السياسية وارداً في أي طرحٍ لكهول السياسة الكردية، وهم أصلاً لم يجدوا في أنفسهم الأهلية الكافية لقيادة شباب الثورة إلی حيث يجب فعلاً أن يقودوه. هنا، بالضبط تبلورت الحاجة لبعبع جديد، وإطار آخر، لتأجيل استحقاقات القضية الكردية أمام المنفرج الكبير الذي دفعتها ثورة البلاد إليه.
واثقاً من أن الكرد لن يتجهوا يوماً إلى دمشق لإسقاط قصرها الرئاسي، وربما منهياً علاقة ود خشن، عمرها ستة عقود مع الكتلة الكردية التقليدية. وباتفاق غير رسمي، أخلی النظام المنطقة الكردية لحزب الاتحاد الديمقراطي، غير المنتمي لتلك الكتلة، والإشكالي بعلاقته معها، والذي فعّل جزئياً أدوات القمع المنتظرة من التواقين لعهد ثباتهم السياسي الطويل. وإلی جانب انخراطهم في صفوف المعارضة العربية السورية التي تُفضل تأجيل الحديث عن أي استحقاق كردي في سورية إلى ما بعد سقوط النظام، وعقد أول جلسة لبرلمان الثورة. استعادت الكتلة التقليدية، ولو جزئياً، مواقع سكينتها ما قبل مارس/ آذار 2011، فسهل وغير مكلف سياسياً بوجود بديلٍ للسلطة القمعية، والإطار المؤجل لضرورة التحرك الفوري أن تنتقل من مقولة: أي مواجهة مباشرة مع النظام ستكلف الكرد دماءً كثيرة، وفاتورة باهظةً، لا تسمح ظروف خصوصية المناطق الكردية في سورية بدفعها. لمقولة أكثر "حداثة": حزب الاتحاد الديمقراطي هو عصا النظام علی الكرد، ولن نقود الشعب إلى الصدام المباشر معه، كما أننا جزء من المعارضة السورية، وإسقاط الأسد أولويتنا الأولی. وهو لم يكن أولويتهم، ولا أولوية الكرد في أي يوم، بما يشهد به تاريخ الحركة الكردية، بشقيها التقليدي واليساري المسلح.
يبقی كلامٌ لوجدان كهول السياسة لم يقله أحد: ألا ليت أيام الأسد وقمعه تعود كما كانت، ونرتاح من كل هذا الصخب الذي يورّطنا به خصمنا الكردي اللدود، والمعارضة العربية الطائشة. قالها مرة قيادي كردي بحسرة: أيام قوة النظام كنا أسعد حالاً.
avata
avata
محمد نبو

كاتب سوري مقيم في أربيل

محمد نبو