ليبيا: بروفة الحرب العالمية الثالثة

05 يوليو 2020
+ الخط -

لم تستوقفني تهديدات عبد الفتاح السيسي الخارجية يومًا، فأنا اعتدت أن آخذ هذا الشخص على محمل الهزل في هذه المناسبات، مستذكرًا القسم الذي التمسه من رئيس وزراء إثيوبيا، ذات مؤتمر صحفيّ، بأن لا تؤذي إثيوبيا مصالح مصر في نهر النيل، وهو القسم الذي أدخلني في نوبة ضحكٍ هستيريةٍ لم أستطع وقفها بعد. أما تحذيرات السيسي الداخلية، الموجهة إلى الشعب المصري، فهي تهديداتٌ أصدّقها وآخذها على محمل الجد، مستذكرًا مجزرة ميدان رابعة وغيرها. ولكن التهديد الذي لوح به السيسي أخيرا ضد الحكومة الشرعية في ليبيا استوقفني، على غير العادة، وشعرتٌ أنه وعيدٌ جادّ، ليس اعتمادًا على قوة السيسي، بل لأن ثمة قوى خفية دفعت جنرال الانقلاب لإطلاقه.

عمومًا أنا أشتمّ رائحة حربٍ أضخم من السيسي وتهديداته، وإنْ بدأت به، ولا أدري لماذا أستحضر الآن أجواء الحرب الأهلية الإسبانية، فثمّة تماثل غريب في الأجواء المشحونة التي سبقت الحربين، وسأفصّل قليلًا في هذا الشأن.

اعتبر مؤرّخون أن الحرب الأهلية التي اندلعت في إسبانيا سنة 1936 كانت بمثابة "بروفة" للحرب العالمية الثانية، وأشعر أن ما يحدث في ليبيا مقدمة أيضًا لحربٍ كبيرة ستجرّ إليها أطرافًا إقليمية وعالمية، منها تركيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا، إضافة طبعًا إلى مصر وربما الجزائر.

بدأ مخاض الحرب الأهلية الإسبانية بتمرّد جنرال مستبدّ انتهازيّ، يدعى فرانكو، ويعمل بعيدًا عن مركز العاصمة مدريد، استطاع أن يؤلّب جنرالاتٍ آخرين، ورجال دين متشددين، بحجّة مقاومة نظام الحكم الديمقراطي الجديد الذي أعقب الملكية، ونجح أيضًا في استجرار دعم الفاشيين في إيطاليا والنازيين في ألمانيا لمؤازرته بالسلاح والمرتزقة. وفي المحصلة، تمكّن فرانكو من تقويض النظام الحاكم في إسبانيا واحتلال العاصمة عقب ثلاث سنواتٍ من حربٍ أهليةٍ طاحنةٍ قتلت ما يزيد على مليون ونصف المليون ضحية، ولتبدأ بعدها حقبةٌ استبداديةٌ طويلةٌ بزعامة جنرال الحرب استمرت 36 عامًا.

أما على الجبهة الليبية، فثمة "جنرالٌ" آخر يشبه فرانكو في انتهازيته وميوله الاستبدادية، يُدعى خليفة حفتر، لكنه أقل منه دهاءً وذكاء؛ لأنه في الواقع "فلول جنرال"، لا يملك من أمره شيئًا، بل ثمّة من نفض عنه غبار المنافي ووضّبه ولمّعه، وجاء به تحت شعار "تطهير ليبيا من الإرهابيين". أما الغرض الحقيقي فهو القضاء على الديمقراطية الليبية الوليدة، خصوصًا وأن من يموّل حفتر بالمال والسلاح هم أنفسهم أعداء الربيع العربي الذين أجهضوا ثورة يناير المصرية، وثورة اليمن الشعبية، القابعون في أبوظبي والرياض وأذنابهم، ولم يبخلوا على جنرالهم بمرتزقةٍ عربٍ وأجانب.

انضمّت إلى تحالف حفتر، أيضًا، قوى عالميةٌ متوارية، تعمل من خلف ستار، وتمدّه بالسلاح والتسهيلات اللوجستية، وإن أظهرت ميلها المقنّع إلى الحل السياسي للأزمة الليبية، لكنها سرعان ما تظهر رأس الأفعى، عندما تشعر بأن جنرالها فقد لمعانه، ويعاني من ورطةٍ ما، كما حدث أخيرا عندما منيت مرتزقته بهزيمةٍ مذلةٍ على مشارف طرابلس، واضطرّت إلى الفرار من الجنوب الليبي برمّته، فسارعت إلى الكشف عن كل أقنعتها، وهي تعبّر عن عدم رضاها من التدخل التركي، علمًا أنه تدخلٌ شرعيّ موقعٌ مع حكومةٍ شرعيةٍ وجدت نفسها محاصرةً بتدخلات لا حصر لها لكل طامع في البترول الليبي. وانضمّت إلى هذا التحالف الخبيث مؤسسة دينية عظمى، ممثلة بالأزهر الذي أصدر بيانًا دعم فيه الرئيس السيسي في وعيده وتهديداته الموجهة إلى ليبيا وحكومتها.

نخلص إلى أن التماثل حاصلٌ في الأجواء المشحونة لحربين، الأولى ضروس، والثانية نأمل أن لا تقع، وأن لا تتماثل النتائج إن وقعت، لأنها ستحصد آلاف الضحايا، ولأن ليبيا سوف تدخل حقبة استبدادية أشد قسوة وطولًا مما شهدته إسبانيا سابقًا، فقد علمتنا التجارب أن أبشع ضروب الاستبداد لا تكون إلا على يد جنرال أرعن أحمق، دخل الجندية بحثًا عن مأوى، فقاده سوء حظ الشعب إلى كرسيّ السلطة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.