لوغاريتمات زيدية وشيعية

26 مايو 2015
+ الخط -
من بين مؤلفات كثيرة، تناولت الجذر الفكري للحوثيين في اليمن، نشر الدكتور محمد الدمرداش العقالي كتاباً عنهم. وهو رجل قانون، ومستشار سياسي مصري للرئيس الأسبق، حسني مبارك، وذو تجربة مثيرة. درس الحقوق واشتغل محامياً وقاضياً ومستشاراً في محكمة استئناف، ثم مستشاراً مُعاراً لوزارة الداخلية السعودية، ثم سياسياً انتمى إلى حزب العمل المصري، وهو امتداد حزب مصر الفتاة، الذي أسسه، أحمد حسين، في الثلاثينيات، ثم أعاد تأسيسه، إبراهيم شكري، في عام 1978، حزباً ذا توجهات إسلامية. كان العقالي، نائب إبراهيم شكري، بعد أن انتخبته قواعد الحزب لذلك المنصب، وأعطاه الناخبون كذلك أعلى أصوات يحصل عليها فائز بعضوية مجلس الشعب في الانتخابات العامة. نادى الرجل بالسلم الأهلي، وبعد أن انتهت دورة المجلس، عينه مبارك عضواً في مجلس الشورى، ومستشاراً له، وذلك كله، قبل أن يُقال، إن هذا الرجل قد تشيّع، مختتماً لوغاريتمات مسيرته! 

كأنما اجتذبت محمد الدمرداش العقالي تجربة زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب دون سواه، من تجارب الرموز التي اشتقت منها الفرق الشيعية أسماءها. فكما هو معلوم، هناك إثنا عشر إماماً تلونت مناهج الفرق الفقهية الشيعية وعناوينها بأسمائهم. فبعد الأئمة الأربعة الأُوَل (علي كرم الله وجهه، وولداه الحسن والحسين، وعلي بن الحسين المعروف باسم زين العابدين أو السَجّاد) الذين لم يختلف عليهم القوم من مناوئي الحكم الأموي؛ افترقت سياقات هؤلاء الناس، عند الإمام الخامس واختلفوا. منهم من رأى أن الإمام الخامس هو محمد، شقيق علي بن الحسين، المُلقب "الباقر" ومنهم من أصر على أن الإمامة من حق زيد علي بن الحسين. من نقطة الافتراق تلك، نشأت الزيدية الشيعية، وليتها نشأت وتماسكت، بل سرعان ما تناسلت إلى فرق تحمل أسماء متفقهين وأئمة فرعيين، منها الجارودية، نسبة إلى أبي جارود الكوفي الهمذاني، والسليمانية، نسبة إلى سليمان بن جرير الزيدي، والبترية التي امتشقت كُنية أو لقب الحسن بن صالح بن يحيى الذي لُقب الأبتر، والنعيمية، نسبة إلى نعيم بن اليمان، واليعقوبية نسبة إلى شخص قيل، إنه صاحب كرامة وليس فقيها، يُدعى يعقوب.
في كل حكاية، ومع كل اسم، كان ينشأ الخلاف وتتشعب المتاهة، وتتأطر كل فرقة متميزة عن سواها. وقد حظي عمر وأبو بكر، رضي الله عنهما، بالنصيب الأوفر من الأسباب: هذه الفرقة تتبرأ منهما، وتنشق عنها فرقة أخرى، لأن بعض الأولى لم يرض التبرؤ ممن لم يتبرأ. وثالثة تجتهد لتعيين الفارق بين أن تكون الأمة، عندما ولّت أبا بكر وعمر، قد اقترفت محض خطأ في حجم إثم، أو أن تكون اقترفت إثماً بيّناً، وهنا تنقسم الثالثة إلى قسمين، ليقع بعدئذٍ خلاف بين منتسبيها، حول جواز إمامة المفضول في وجود الأفضل. لكن أشد الأسباب دوياً، في تاريخ الشيعة الزيدية، هو تجرؤ فريق منهم (هو فريق الأبتر) على القول، إن عليّاً كان الأحق بالإمامة من عمر وأبي بكر، لكن بيعتهما لم تكن خطأً، لأن عليّاً ترك ذلك لهما. أما أطرف الخلافات فتتعلق بواقعة قتل الخليفة الثالث، عثمان رضي الله عنه: فريق يقول، إن قتله جائز، أما تكفيره فلا يجوز. وفريق آخر يقول، إن قتله وتكفيره جائزان.
ذلك السياق الزيدي، على متاهته، كان أقل ضراوة وتعقيداً من السياق الشيعي العام، على امتداد مراحل ظهور خمس عشرة فرقة. فقد أعيا هذا السياق المؤرخين، وخاض فيه البغدادي والأشعري والإسفراييني والشهرستاني والرازي، من دون إحاطة بمفارقاته والتباساته. بل إن فرقة عجيبة، سمت نفسها "الشيطانية" لم يعترف بها معظم جمهرة علماء الشيعة، رفعت موجها وركبت رأسها، لكي تطرح فكرة أن الله، سبحانه، لا يعلم بالأشياء قبل وقوعها، وإنما يعلمها بعد أن يكون قد أرادها وحصلت. أما حكاية رجعة الأموات إلى الدنيا من عدمها، فقد ألهبت وطيس الجدال، لصلتها بفكرة عودة علي ليكون إماماً. فمن قائل إن الأموات لا يبايعون، ولا منطق في عودته، كرم الله وجهه، دونما بيعة؛ وقائل، إنه سيعود من الموت جاهزاً، وذا بيعة موضوعية.
 
في هذه اللُّجة، وحيثما تتبدّى وجاهة مضغ القات نفسه وأفضليته لليمنيين؛ تكمن السياسة، وتظهر تجليات التمرد على النظام السياسي، عندما يضرب المجتمع في العمق. ففي خلجة النمو الأولى لجذر الزيدية، كانت هناك حكاية زيد بن علي بين الحسين، عندما ارتحل إلى الشام، أملاً في أن يأذن له الخليفة هشام بن عبد الملك، بالمثول بين يديه، ويستمع إلى مظلمته وشكواه، من واليه على المدينة المنورة، خالد بن عبدالملك بن الحارث، غير أن هشاماً لم يأذن لزيد بالمثول بين يديه. هنا، نحن بصدد واحدةٍ من تجليات الكِبر والاستبداد، ولا سيما وأن من يطلب اللقاء هو حفيد الحسين بن علي بن أبي طالب. بعد أن أعيت زيداً الحيلة، دفع إلى قصر هشام بورقة مكتوبة، يطلب فيها الإذن بالدخول. أعاد هشام الورقة إلى مرسلها، وقد كتب في ذيلها: "ارجع الى منزلك". بدوره، أعادها زيد إلى هشام، وكتب في أسفلها: "والله لا أرجع إلى خالد أبداً". عندئذٍ، أمر هشام بإحضاره لتوبيخه. بدأ هو وليس زيد، فقال: "بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها يا زيد، وأنت ابن أمَة (ملمحاً إلى أم زيد، وكانت عبدة من السند)". أجابه زيد: "يا أمير المؤمنين، لقد كان اسحق ابن حرة، وإسماعيل ابن أمَة، فاختص الله ولد إسماعيل وجعل منهم العرب، فما زال ذلك ينمو، حتى كان منهم أفضل الخلق أجمعين، محمد بن عبدالله عليه السلام. أفتقول لي هذا، وأنا بن علي بن الحسين ابن فاطمة؟" أجابه هشام: "اخرج من هنا". رد زيد بعد أن أنشد أبياتاً من الشعر: إنني أخرج، ولن تجدني إلا حيث تكره".
في تلك الواقعة، كانت السياسة الرديئة، لا الفقه الرديء، سبب التمرد. ربما لم يكن زيد سيجمع من حوله من يناهضون الحكم، لو أن هشاماً أحسن في السياسة، وأظهر شيئاً من الإحساس بالمسؤولية عن رعاياه في العموم، ووفاءً لبيت كريم، فلا اختلاف حول هذه النقطة.
من هذه الشقوق، تنمو اللوغاريتمات كالفطر، في أكناف أنظمةٍ لا تفهم عدداً ولا رمزاً في رياضيات الحكم. تحتقن المجتمعات، من دون أن تكون العبادة، أو الخصوصيات الفقهية، جوهر الأسباب. ربما هي عناوين مكونات اجتماعية، في بلدان متخلفة، فتستغل الشقوق بينها وبين النظام السياسي في بلادها؛ قوى إقليمية لها طموحاتها، فتتظاهر بالحب والمساندة، وتتجاهل الرحى التاريخي للسجالات الفقهية الشيعية كلها، التي تناسلت بجريريتها الحركة المذهبية، أسست طوائفها، وإن كانت قد توزعت شِيَعاً وتكتمت على خصوصياتها، بسبب حساسيتها الأقلوية في الإقليم.
أصدر محمد الدمرداش العقالي الذي تناسلت تجربته هو الآخر، عن دار سما في القاهرة، كتابه عن الحوثيين، موسوماً بعنوان "الحوثيون.. مسيرة الشيعة الزيدية في اليمن"، في أقل من مائتي صفحة، ليضيء جوانب من تاريخ الشيعة الزيدية. وثمة صلة بين دوافع الكاتب وموضوع الكتاب. ذلك لأن العقالي يمثل منحى مستجداً، في بعض مجتمعات الإسلام السُني، وهو تشيع بعض الرموز الثقافية أو الفكرية، ودعوتها سراً أو علانية إلى التشيع (على سبيل المثال، محمد التيجاني السماوي في تونس، ونور الدين الهاشمي وإدريس الحسيني في المغرب، ومونتسدات روفيرا الباحثة الإسبانية، وحسن شحاته رجل الدين المصري الذي كان مسؤولاً عن التوجيه المعنوي في سلاح المهندسين). وأغلب الظن أن ذلك المنحى لم ينشأ عن قناعات فكرية، بقدر ما نشأ عن قراءات سياسية واجتماعية، تتعلق بمناهج أنظمة حكم وتوجهات. وللحديث في هذه المسألة سياق آخر.